الاستراتيجية الاميركية في الشرق الاوسط
الاستراتيجية الاميركية في الشرق الاوسط - Page 21
الجمهور 13كانون اول 1979
بقلم سليم نصار
لندن تتنبأ بسقوط الأمبراطورية التلفزيونية
كيسنجر يعمل لارباك الحزب التقدمي بواسطة قضية الشاه

اكثر ما يزعج الولايات المتحدة في ازمتها مع ايران, هو الصمت الاوروبي.
فالدول الحليفة لاميركا في اوروبا الغربية واليابان, لا تظهر اي اهتمام بهذه المسألة اللهم سوى الاهتمام الاعلامي الذي تبديه الصحف والاذاعات وشركات التلفزيون. وما عدا ذلك, فالحكومات بمواقفها الرسمية المعلنة تتصرف بكثر من التحفظ مخافة ان تتورط بمغامرة اقتصادية او عسكرية ليست في مصلحتها.
صحيح ان بعض المصارف قد تجاوب مع عملية تجميد الاموال. ولكن هذه الخطوة تبدو صغيرة جداً بالنسبة للمطاليب الاميركية وحاجة واشنطن الى من يساندها ويدعم موقفها اوروبياً, بشكل علني.
هناك من يقول ان فرنسا وبريطانيا تتفرجان الان على الورطة الاميركية, وتثأران من قرار ايزنهاور عام 1956 يوم تدخل لوقف العدوان الثلاثي على مصر. وهما في تصرفهما هذا يطمحان الى العودة نحو مواقع النفوذ في الشرق الاوسط, ولو اقتصادياً, بعدما "كنستهما" اميركا تكنيساً خلال العشرين سنة الماضية. وهو التعبير الذي استخدمه البريطانيون للاشارة الى استغلال واشنطن لازمة مصدق في ايران لكي تصبح هي صاحبة الحل والربط... وصاحبة الحصة الاولى في النفط.
بينما يستنتج المعلقون في باريس ولندن وفرانكفورت من خلال الموقف العسكري الذي يهدد به كارتر, بأن الولايات المتحدة قد تستفيد من ضرب ابار النفط في ايران, اذا كانت تريد تهديم الصناعة الاوروبية واعادة نفوذ الدولار. ويرى هؤلاء بأن النفط الايراني يؤثر بشكل مباشر على اليابان واوروبا الغربية اكثر مما يؤثر على الصناعة والحياة في الولايات المتحدة.
ويختلف المعلقون الاميركيون معهم حول هذه النقطة بالذات, لان تهديم آبار النفط في ايران لن يكون عملاً محصورا و محدودا لكي لا تخشى الولايات المتحدة عواقبه. ذلك ان منطقة الخليج هي منطقة بالغة الحساسية... والتعاطف مع الثورة الايرانية اصبح موقفاً شعبياً. لذلك من الصعب التكهن بأن ردة الفعل ستكون ايرانية فقط. الا اذا كان "الكومبيوتر" في البانتغون يقيس الامور بالمقياس الذي تم فيه تقييم اوضاع الشاه. عندئذ تكون اميركا فعلاً حكمت على نفسها بالانتحار الاقتصادي والسياسي.
ولم يحدث ان اثار في التاريخ المعاصر, شخص سياسي عاصفة دولية بالقدر الذي اثاره شاه ايران. فقد تحول الى قضية انتخابية داخل الولايات المتحدة.... وتحول الى موقف عالمي بين الدول ذات العلاقة.... ثم تحول الى ازمة ديبلوماسية كادت تصل الى حافة الحرب.
ومع ان هنري كيسنجر كصهيوني ملتزم, يؤمن بمبادئ ديزرائيلي, رئيس وزراء بريطانيا (وكان صهيونياً عتيقاً) بأن العداوات والصداقات ليست دائمة... وانما المصالح وحدها هي الواقع الدائم, فقد اختار مصلحته الشخصية على مصلحة الولايات المتحدة عندما اقنع كارتر وادارته بوجوب استضافة شاه ايران. ولكي يغطي طلبه بالاسباب الموجبة فقد احرج الرئيس على التلفزيون عندما قال بأنه: "لم يحدث في تاريخ اميركا ان ادار رئيس جمهورية ظهره لحاكم صديق ظل متعاوناً مع واشنطن ومخلصاً لها مدة تزيد على الثلاثين سنة".
ثم ذكر في تصاريحه بأن الشاه رفض طلباً كانت قد تقدمت به موسكو بأن يسمح للطائرات الحربية السوفياتية بأن تمر فوق ايران خلال حرب 1973 لمساعدة الدول العربية... كما رفض مشاركة الدول النفطية في قرار حظر النفط عن الغرب واسرائيل.
وبغض النظر عن قيمة هذه الاسباب حالياً في المصلحة الاميركية, فان المحللين يؤكدون ان كيسنجر كان يرمي من وراء تحريضه, الى تحقيق هدفين بعيدين عن كل ما ذكره من مبررات سياسية.
اولاً – كان يريد تأمين المبلغ الذي وعده به شاه ايران من جهة وديفيد روكفلر من جهة اخرى, ويقال ان هناك مائة مليون دولار تنتظره بالاضافة الى المرتب الذي يتقاضاه من الشاه عن نشاطه منذ عام 1973 كمسؤول عن العلاقات العامة مع اميركا. وبما ان ديفيد روكفلر يخشى على المليار دولار التي وظفها الشاه في مصرفه, فهو الاخر حريص على عدم اضاعة الفرصة, لان الدول التي كان من المقرر السكنى بها, ربما استفادت من الحاكم المخلوع وحرضته على سحب امواله. وهو ما كان يتمنى الرئيس السادات ان يفعله فيقنع الشاه بتوظيف امواله بالمشاريع الصناعية في مصر. وكان كيسنجر في رده على "جورج بول" قد ذكر بأن الشاه لعب دوراً اساسياً في تحقيق مبادرة "كامب ديفيد" وبأنه اقنع السادات بها.
ثانياً – كان كيسنجر يلعب ايضاً لعبته السياسية عن طريق توريط كارتر والحزب الديمقراطي بأزمة داخلية كالتي حدثت. عندئذ يكون قد استخدم صديقه الشاه لاضعاف الحزب الديمقراطي الحاكم. وعندئذ ايضاً ربما يبتسم له الحظ مرة اخرى مع اى جمهوري قد تفرزه الاحداث رئيساً جديداً للولايات المتحدة في الثمانينات. ومن هنا يسترد مكانته وينتقم من الذين حرضوا ضده واتهموه بمجازر كامبوديا وأزمات لبنان وقبرص والتشيلي وغيرها.
ويبدو ان المرشح الديمقراطي كنيدي قد لاحظ هو الاخر تداخل ازمة الشاه بالوضع الانتخابي الداخلي, فأسرع الى استغلال القضية استغلالاً سياسياً, معلناً ان مستقبل الولايات المتحدة يجب الا يحدد بالعلاقات مع الاشخاص بل مع المصالح.
ولم يكد تصريح كنيدي يظهر على التلفزيون حتى جردت ضده حملة شعواء, استغلها رسامو الكاريكاتور في كل مكان. وقد اظهروه بأنه من اتباع الخميني, وبأنه يريد تحويل البيت الابيض الى جامع. وكان رسم "كامينغ" في الديلي اكسبرس الانكليزية, واضحاً بأن الغرب لم يعد يسمع صوت المنطق, وان الغرائز والامزجة هي التي تتحكم بتصرفاته. فقد صور كنيدي يصلي تحت صورة الخميني وقد خلع حذاءه.
ومهما تكن النتائج والمضاعفات لهذه الازمة, فإن المشاكل الخارجية للولايات المتحدة بدأت تتحول شيئاً فشيئاً الى مشاكل داخلية. بالامس, كانت فيتنام. واليوم القضية الفلسطينية عبر مسألة السود واندرو يونغ. ثم مشكلة الشاه والطلاب الايرانيين.
ويعترف البريطانيون بأن امبراطوريتهم قد انحسرت خلال مدة لا تزيد على الخمسين سنة. ولكن الامبراطورية الاميركية لم تعمر اكثر من عشرين سنة ... لانها امبراطورية تلفزيونية تكون فيها الاوهام والخيالات والصور اكثر من الحقائق.
وفي كل مرة يستيقظ الشعب الاميركي, يدرك بأن، ما رآه من قياداته كان وهماً وليس حقيقة... وان العالم الاخر مختلف جداً عن الرسوم المتحركة التي تغسل دماغه مدة 24 ساعة في اليوم وتصور له بأنه هو اقوى مواطن.. لاقوى واغنى دولة في العالم.
لقد انتهى زمان اشعر الشعراء. (انتهى)
___________________




