الاستراتيجية الاميركية في الشرق الاوسط
الاستراتيجية الاميركية في الشرق الاوسط - Page 11
الإبتزاز يصبح القاعدة الرئيسية في سياسة أميركا الخارجية
(الجمهور في :3-5-1979 سليم نصار)
كلمة "ابتزاز" Black Mail في القاموس الاميركي لها تاريخ طويل بحيث أصبحت جزءا لا يتجزأ من التاريخ السياسي والديبلوماسي للإدارة الرسمية.
ولقد استعملت هذه الكلمة من قبل رجال الأمن بعد مرحلة "التشهير" التي عرفت بها العشرينات والثلاثينات عندما قويت شركة "المافيا" في المدن الكبرى, وحاول العراب "أل كبوني" أن يجعل من نفسه حاكما خفيا موازيا في السلطة والتخويف, لرئيس الجمهورية.
وبما أن مبدأ الابتزاز يتعلق بنواحي عديدة في الحياة, فقد اقتصرت عمليات "المافيا" على الجزء المادي منها, أي أن "أل كبوني" كان يدرس اهتمامات ضحيته ويتلمس مكامن ضعفها, فيعمد الى شن حملات نفسية ضدها بحيث يجبرها على إعطاء قسم من الارباح لمنظمته. وبهذا الاسلوب يتحول الى شريك أساسي دون أن يساهم في التمويل.
ومن الاساليب المؤذية التي مورست في هذا النطاق, ضد الذين يرفضون التجاوب مع هذه العصابات, كانت اساليب الابتزاز. أي خطف الاولاد.. أو مراقبة الحياة الخاصة لصاحب الملهى أو المطعم أو صالة السينما, ثم عرضها عليه كأداة تهويل. فإذا قبل بشروطهم وأذعن لها , قاسموه المغانم والمكاسب. وإذا رفض, فإن "صحفهم الصفراء" تبدأ في حملات التشهير الاجتماعي والابتزاز النفسي. أما الخطوة الأخيرة فتنتهي عادة بالقتل. قتل صديق أو عزيز.. أو طفل أو زوجة !
والمعروف أن المجتمع الاميركي قد وقف بشدة ضد عصابات الارهاب هذه, وطالب بطرد الجالية "السيسيلية" التي نقلت معها الى العالم الجديد هذه التقاليد والاساليب التي بلغت حدا من العنف كان يمنع رجال الدولة أو رجال الصحافة من إعلان حقائقها وكشف ظروفها وفضح طرقها. وبعد موت العراب بعدة سنوات, ظهر كتاب عن هذه العصابات في مطلع الخمسينات, قام بجمع معلوماته صحافيان. ولقد أغتيل أحدهما, وهرب الاخر خارج البلاد. ثم ظهر كتاب "العراب" لأن مؤلفه له صلة وثيقة "بالمافيا" التي تضاءل نفوذها كثيرا بعدما أدخل "ادغار هوفر", مؤسس ومدير الـ "أف بي أي" عناصر من جماعته في صفوفها, قامت بنسف تنظيماتها المعروفة بتنظيمات الخلايا. أي نظام السرية والاستقلالية ضمن الشبكة الكبرى التي يجهلها الصغار.. ويختفي وراءها الكبار!
وبدلا من ان يعمد "هوفر" إلى ضرب اساليب "المافيا" والغاء ممارستها داخل المجتمع الاميركي.. فقد تبنى بعض طرقها وأدخلها ضمن نظام العمل السياسي لمكتب المخابرات الفدرالي.
ويقال أن الرئيس جونسون هو الذي شجعه على توظيف الابتزاز ضد خصومه الحزبيين, أولا .. وضد كل القوى المناوئة, ثانيا وفي الكتاب الذي ظهر عن جونسون, يشير المؤلف الى ان احب الساعات الى الرئيس كانت تلك التي يراجع فيها تقارير "هوفر" المليئة بالفضائح الاخلاقية والقصص الشخصية. ولقد استغل "هوفر" هذا الضعف عند الرئيس, فكان يزود مكتبه بالكثير الكثير منها, ويوظف هذا النشاط الإستثنائي لزيادة الميزانية الخاصة بمكتبه. وعندما ظهرت بعض التحقيقات الصحافية والتلفزيونية, أشار الجميع الى الدور الذي كان يضطلع به "هوفر" عن طريق استخدام اساليب التشهير والعنف. وفي المسلسل الشهير الذي يراه الجمهور الاميركي والاوروبي على شبكات التلفزيون هذه الايام, اتهام صريح لهوفر بأنه يقف وراء عملية اغتيال مارتن لوثر كينغ... وبعض كبار الشخصيات السياسية.
وعندما دشن رالف نادر, صاحب ثورة المستهلك في الولايات المتحدة, نشاطه باتهام شركة "ج.م" بأنها تصنع سيارات بعيدة عن السلامة المطلوبة, واضطرها لسحب موديل "كورفير " من الاسواق.. قررت الشركة ان تسيء الى سمعته وتثأر لصيتها الصناعي والتجاري, فتعاقدت مع " بوليس خاص" لقاء مبلع ضخم من المال لكي يوافيها بكل خصوصياته: علاقاته العاطفية, وضعه المالي,, كم مرة دخل السجن .. كم مرة اتهم بمخالفة القانون... الخ .
وفوجىء البوليس الخاص بأن رالف نادر يعيش عيشة النساك وهو أبعد ما يكون عن حياة البذخ والترف. وأكثر من هذا فإن اسمه لم يكن مسجلا في دليل الهاتف. وهكذا اسقط في يد الشركة وربح رالف نادر الدعوى ضدها.
نسوق هذه الحادثة لندلل على طبيعة النظام الابتزازي التي اصبحت عاملا فاعلا في الحياة السياسية والاقتصادية داخل الولايات المتحدة.
وفي الكتاب الذي تترجمه "الجمهور" – الوثيقة راء – أو سر الاعتراف – مجموعة معلومات صحيحة وضعها المؤلف "أرفينغ والاس" استنادا الى ما يعرفه عن قصة مقتل جون كندي. ولكنه وضعها في إطار قصصي مثيرة لكي يخفي الشبهات. وهو يتحدث باسهاب عن طرق الابتزاز التي تستعملها المخابرات ضد الشخصيات الحاكمة بحيث تحولها الى أداة طيعة تأتمر بأمرها.
هذه السياسة الداخلية أصبحت جزءا من سياسة الولايات المتحدة الخارجية. لأن ادارة كارتر قد اعتمدتها اسلوبا واضحا صريحا في أزمة الشرق الأوسط, وحولتها الى وسيلة من وسائل الضغط التي توظفها في الغالب مع سائر الامم لكي تحصل منها على تنازلات سياسية أو على معاهدات اقتصادية. بكلام اخر, لقد تحولت الدولة الكبرى أميركا, الى اسلوب "المافيا" لكي تحقق ما عجزت عن تحقيقه بالاقناع والترهيب والترغيب.
ويبدو أن عدم فهمها لذهنيات العالم الثالث هي التي تقودها الى هذه الانهيارات السياسية والتراجعات العسكرية. وكان المراقبون في الشرق الاوسط يعتقدون بأن أحداث ايران سوف تكون درسا قاسيا في تاريخ السياسة الاميركية بالنسبة لهذه المنطقة, لأن عدم فهم الإدارة في واشنطن للقدرات المحركة عند هذه الشعوب هي التي جعلتها تهمل أية الله الخميني وتتصور انه لا يستطيع تدمير عرش الطاووس. تماما كما أهملت برطانيا في الماضي. المهاتما غاندي وراحت تتحدث عنه كظاهرة خارج الزمان والمكان. فإذا به يتحول الى ثورة عارمة سجلت بداية الهزائم في الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس.
وكما كشفت إدارة كارتر عن نوع الذهنية التي تتحكم بسياسة البيت الأبيض, فقد كشفت أيضا عن الوسائل التي تستخدم حرية الاعلام تغطية لخدمة "الامبراطورية الاميركية" ان كان في الولايات المتحدة أم في بريطانيا أم في فرنسا أم في المانيا الغربية. فقد اكتشف المراسلون والمعلقون فجأة أن الملك حسين قد أرخى لحيته.. وأن هناك سيارات فارهة في السعودية.. وأن دمشق لا تحب نظام أنور السادات.. وأن بغداد هي عاصمة العراق! كل هذه البديهيات من الحقائق رصعت كعقد منتظم وراحت الادارة الاميركية تبثها وتوزعها وتنشرها كوسيلة من وسائل الضغط والترهيب لعل هذه الوسيلة تأتي بالنتيجة المرجوة في تأييد مبادرة السادات, على اعتبار أن الذي لا يؤيد المبادرة سيتعرض لمزيد من هذه الادعاءات والافتراءات. تماما كما كانت تفعل "المافيا" مع أصحاب المطاعم والفنادق.. تماما كما فعل هوفر مع أكثر خصومه.. تماما كما فعل جونسون مع معارضيه!
مرة أخرى نقول , ان الشرق شرق والغرب غرب.. والعقليتان لا تتفاهمان.
فقد حدث في مطلع الخمسينات أن وضع فوستر داللس سياسة اميركا الخارجية تحت هذا الشعار: من ليس معنا... فهو ضدنا, وفي اقل من عشر سنوات كان كل العالم ضده. لأن خروتشيف وقف ليؤكد أن سياسة الاتحاد السوفياتي تنطلق من عكس هذه النظرية تماما, أي "من ليس ضدنا فهو معنا".
وبما ان بلدان العالم الثالث لا تستطيع أن تكون مع اميركا ولا ضد روسيا, فقد كانت سلبية الاول تدفع جميع الدول المستقلة حديثا الى الوقوف موقف عدم الانحياز او ما سمي فيما بعد بالحياد الايجابي.
مرة ثانية يطرح كارتر النظرية التي طرحها فوستر داللس. ويقول المراقبون انه سيترك حتما البيت الابيض, وقد زاد من أعداء اميركا في افريقيا والشرق الاوسط, لان كرامات البلدان الصغرى لا تسمح بهذا الاغتصاب النفسي او الابتزاز السياسي. وعلى سبيل التذكير لا بد من استعراض الاسباب التي دفعت الرئيس عبد الناصر لعقد صفقة الاسلحة مع الكتلة الشرقية, وكانت تلك الصفقة هي بداية التحول في المنطقة كلها.
لقد كان عبد الناصر بحاجة الى اسلحة متطورة وكلف بعض وكلاء الاسلحة, وبينهم لبناني, في شراء الاجهزة والاليات من اميركا. بعدما اتفق على الانواع والاسعار بقي العرض نائما في ادراج "البانتغون" مدة طويلة. وعندما سأل الوكيل اللبناني عن السبب قال له احد المسؤولين بأن هذا القرار يدخل ضمن المسؤولية السياسية. فناظر الخارجية هو الذي يقرر. وجرى الاتصال مع الخارجية الاميركية فجاء الجواب بالنفي. ولما اُبلغت القاهرة بالامر كان جوابها التالي: "إذا كانت اميركا لا تريد تزويدنا بالسلاح فنحن أحرار في أن نشتريه من أي جهة!" .
وحمل الوكيل اللبناني الجواب حرفيا الى وكيل الخارجية الاميركية وعندما سمع رد القاهرة استوى واقفا وراء الطاولة وراح يهز سبابته محذرا : "ليجرؤ عبد الناصر على هذا العمل... ليجرؤ عبد الناصر!"
وبعد اقل من شهر وقف عبد الناصر ليعلن عن صفقة الاسلحة من الكتلة الشرقية. وجن جنون البيت الابيض, وجاء وكيل الخارجية لمقابلة عبد الناصر. ورفض مقابلته والاصغاء الى المبررات التي سيقدمها, ثم قابله بناء على طلب السفير الاميركي, وبعدما "نقعه" أكثر من ست ساعات في غرفة الانتظار, استقبله وقال له: لو انك رددت الكلام الذي قلته للوسيط لقذفت بك من النافذة!
وفي لقائه مع الجماهير أعلن عبد الناصر كل ما جرى له مع المبعوث الاميركي الذي اعترف بأن الخارجية قد أخطأت في التقدير لاعتقادها بأن مصر لن تشتري السلاح من الكتلة الشرقية!
ويستدل من السياسة الخرقاء التي يمارسها كارتر في افريقيا والشرق الاوسط, انه سيأتي يوم يقذف فيه الوجود الاميركي من شبابيك السرايات والوزارات, لأنه جعل بقاءه السياسي والاقتصادي رهنا باسرائيل. كما جعل من سلاحها الخاص شرطا لأي تعاون أو تفاهم, كأن بريزنسكي قد زاد على عبارة فوستر داللس عبارة جديدة تقول: من ليس معنا فهو ضدنا.. ومن ليس معنا ومع اسرائيل فهو ضدنا أيضا. تماما كالاعرابي الذي اشترط بيع الجمل والهر معا!
كان احد المعلقين في اوروبا قد انتقد السياسة الاعلامية الاميركية الموجهة ضد الدول العربية التي التزمت بمقررات بغداد, وقال بأن النتائج ستكون وخيمة حتما على الولايات المتحدة, خاصة لم ولن تحقق أي هدف من أهدافها السياسية. لذلك وصفها بسلاح "البومرنغ" وهو سلاح بدائي كان يستعمله الاوستراليون القدامى في صيد الحيوانات, وهو عبارة عن قطعة خشبية صلبة محددة ملتوية قليلا, بحيث ان الصياد يقذفها ضد الطريدة فإذا اصابتها قتلتها أو جرحتها, وإذا لم تصبها فإنها ترتد بشكل نصف دائرة لتعود الى صاحبها.
ويؤكد المعلق بأن هذه الوسيلة قد وصلت الى اخر حدودها دون أن تنتج ردود الفعل المطلوبة. فلا الدول العربية لانت... ولا الإدعاءات التي تلفقها الصحافة ووسائل الاعلام الغربي قد تحققت. (انتهى)
____________________________




