الاستراتيجية الاميركية في الشرق الاوسط
الاستراتيجية الاميركية في الشرق الاوسط - Page 14
الشرق الاوسط
العزيز هنري يتفقد خطته في المنطقة
ثلاثة رؤساء تبنوا سياسة كيسنجر: معالجة الداء بالداء
لكي تظل اسرائيل خروفاً اسود أراد كيسنجر صبغ القطيع كله...
استغرب المراقبون عدم ذكر الشرق الاوسط في حفلة عناق فيينا
بقلم ابراهيم الحلو
(الجمهور في 28 – 6 – 1979 ص27)
منذ الفشل الذريع الذي باء به مؤتمر جنيف عام 1973 في حل النزاع العربي – الاسرائيلي أو ما يسمى "أزمة الشرق الاوسط" قالت واشنطن لموسكو: قفي أنت جانبا ودعيني اتصرف وسترين كيف أتغلب على الصعوبات واذلل العقبات وأحل الاشكال! واقتنعت موسكو بأن تترك لواشنطن "فرصة العمر" لكي تغرق في رمال الشرق الاوسط المتحركة بينما يقف الكرملين متفرجاً على البيت الابيض وهو يحرق اصابعه في محاولة إخراج الكستناء من النار!
وصاحب فكرة ابعاد روسيا عن المسرح - مؤقتاً على الاقل – لقاء تسليمها مسرح الشرق الاقصى بكامله تجول عليه وتصول - هو ناظر الخارجية الاميركية السابق الدكتور هنري كيسينجر, هذا "العقل" اليهودي الداهية الذي طبع سياسة ثلاثة رؤساء أميركيين بشخصيته المرنة, المراوغة, السادية.
وكيسنجر لم يكن, بالتأكيد, راغبا في اطلاق أيدي الروس في جنوب شرقي أسيا ولكنه كان يخطط – وهو سيد من خطط! – لتحريك الصين بعد فترة وضرب النفوذ السوفياتي بالنفوذ الصيني فتتحول أميركا من خصم الى حكم.
ومنذئذ بدأت "المؤامرة الكبرى", مؤامرة يهودية نموذجية مقوماتها الرئيسية خلط الاوراق في كل مكان, وكلما ظهر أن هذه الاوراق قد ترتبت في أيدي اصحابها.
وكيسنجر يعلن هذه الايام عن عزمه على زيارة الشرق الاوسط (مصر واسرائيل بالدرجة الاولى). فما الغاية من هذه الزيارة ان لم تكن "تفقد" سير خطته التي سلم مشعلها الى خلفه سايروس فانس عندما صارت الرئاسة الى جيمي كارتر بعد جيرالد فورد وكان لا بد من اجراء تبديلات في الادارة الاميركية مع وصول رئيس جديد.
والذي حدث أن الادارة الجديدة سارت على خطى إدارة نيكسون وفورد اي على المخطط الذي رسمه كيسنجر, وما تزال سائرة عليه مع بعض التعديلات الطفيفة التي لا بد منها.
أولم يستغرب المراقبون السياسيون كيف تعقد "قمة القمم" في فيينا بين كارتر وبريجنيف لمناسبة توقيع معاهدة سالت – 2 ويتعانق الجباران وهما يتغنيان بسلام العالم وحقوق الانسان ثم لا تصدر عنهما كلمة واحدة تتعلق بأزمة الشرق الاوسط وهي الازمة التي لطالما توقع الناس ان تكون "دانتزيغ" الحرب العالمية الثالثة, أي منطلق شرارتها؟
هل يعني هذا ان موسكو قد نفضت يديها مرة والى الابد من هذه القضية تاركة أمر حلها- أو تعقيدها – للمساعي الاميركية الحميدة؟ أولاً يعني هذا أيضاً ان خطة كيسنجر ما تزال ماضية الى مستقر لها؟
الواقع أن الحد من انتشار الاسلحة النووية وكبح جماع الصين الشعبية في جنوب شرقي اسيا, والتعاون الاقتصادي والتبادل التقني, أمور تبدو في نظر موسكو أهم بكثير من المطالبة بلعب دور الشريك في حل أزمة الشرق الاوسط كما كان الشأن أيام مؤتمر جنيف.
سياسة كيسنجر التي ما تزال فاعلة في اميركا عرفها أحد كبار المعلقين الغربيين بقوله: انها سياسية البلبلة والفوضى المقصودة في كل منطقة من العالم تعاني من البلبلة والفوضى!
وهذا صحيح جداً. وكأن "العزيز هنري" قد قرأ حكمة أبي نؤاس: وداوني بالتي كانت هي الداء!!
ولكي لا نبعد عن شرقنا الاوسط التعيس ننظر في أحواله فنجد أن أزمته هي, في الاصل, أزمة بلبلة وفوضى خلقها خلق اسرائيل فيه. بلبلة وفوضى ولدت أربع حروب والكثير الكثير من الخراب والدمار والتشريد والتهجير.. ولما صار الامر الى السيد كيسنجر قال: مزيداً من البلبلة والفوضى والتخريب والتقتيل فتنحل المشكلة!
قد تبدو هذه النظرية سابحة ضد التيار ولكن الواقع أن الذهنية اليهودية كانت دائماً هكذا: مزيداً من الويلات وتتحقق المعجزات! ألم يبنوا دولتهم, اسرائيل, على اشلاء ستة ملايين يهودي يقال ان الصهيونية العالمية رمت بهم في أشداق هتلرعن سابق تصور وتصميم لكي تجعل من جماجمهم لبنات هيكل سليمان الجديد؟
السيد كيسنجر خطط, منذ البداية, أي غداة حرب تشرين, لإخراج مصر من الصف العربي اعتقاداً منه ان حرمان العرب من "الشقيقة الكبرى" يزيد من البلبلة والفوضى في صفوفهم. فكان الكيلو 101 ثم الرحلات المكوكية الشهيرة, ففك الارتباط الاول فالثاني في سيناء. ولم يكتف بهذا كله بل أخرج من أعماق محفوظات وزارة الخارجية ملف الدويلات الطائفية التي طالبت بها اسرائيل منذ وجدت اسرائيل.. لتكون غطاء لوجودها في منطقة فيها من الطوائف ما لا يعد ولا يحصى. ولكي لا تظل اسرائيل الخروف الاسود في القطيع الابيض – قال كيسنجر – لماذا لا نصبغ القطيع كله بالسواد؟
وهكذا كان..
وبدأت المؤامرة في لبنان بعد "بروفه" في قبرص كانت ناجحة كل النجاح.
ولبنان ما كان ليقع عليه الاختيار لو لم ير فيه ناظر الخارجية السابق الحلقة الاضعف في السلسلة العربية, فهو – أي لبنان – موزاييك غريب عجيب من الطوائف والطائفيات والعقائد والنزعات, والتطبيق فيه يكون سهلا بمقدار تعددية ميول أبنائه ونزعاتهم وارتباطاتهم الداخلية والخارجية.
وتمشيا مع سياسة اشعال النار في غرفة لتمتد بعد ذلك الى البيت كله, اشعلت في لبنان ولما تزل تشتعل منذ أربع سنوات أملا في ان تمتد السنتها الى سائر غرف المنزل, وبخاصة الى تلك التي تضايق سياسة أميركا – أو مخطط كيسنجر – أو تلك التي تغص ببراميل البترول, والبترول مادة سريعة الاشتعال كما نعرف.
وبينما لبنان يتخبط في مأساته, والدول العربية الاخرى تجهد, كل حسب طاقتها, على إطفاء الحريق, اندفعت الخطة الكيسنجرية التي تبناها كارتر وفانس لتركز كل طاقاتها على مصر فكان ما كان من تلك المبادرة المشؤومة وما اسفرت عنه من معاهدة منفردة مع اسرائيل كانت بمثابة سور منيع ارتفع بين مصر وبين سائر شقيقاتها العربيات- حتى لتبدو اليوم, في موقعها من هاته الشقيقات, اشبه باسرائيل العدو التاريخي: مقاطعة على مختلف الاصعدة وتناحر يزداد يوما فيوما.
والقصة لم تكتمل فصولا. بل الواقع انها ما تزال في فصلها الاول أو, إذا كنا متفائلين, قلنا: الثاني.
ذلك ان لبنان لم يقسم بعد, والدويلات الطائفية لم يعلن عن قيامها رسميا (وان كانت نواة واحدة منها ظهرت في الشريط الحدودي) والنار لم تمتد الى أقرب غرف البيت وان كان ثمة ما يشير الى أن السنتها بدأت تطول وتخرج من نوافذ "الغرفة" اللبنانية التي احترقت بالكامل او تكاد...
إذن, ما يزال أمام خطة "العزيز هنري" شغل كثير!.
وهذا البترول الذي لا حديث اليوم في اميركا والغرب إلا عن نقص امداداته او انقطاعه, ولا كلام الا عن توفير الطاقة وخفض الحرارة في المصانع والمساكن؟ ثم يطلعون بعد هذه الحملة الاعلامية المدروسة بنظرية تقول أن مصالح الدول الصناعية في الغرب باتت مهددة أخطر تهديد, ولا مفر لاميركا, بوصفها زعيمة الغرب الصناعي, من سل سيفها والانقضاض على "تنين البترول" لتعود برأسه الى "العالم الحر"!
وفي تصريح أميركي أخير ان فرقة قوامها 110 آلاف رجل, مدربين تدريباً خاصاً, باتوا على استعداد للتحرك في أي لحظة والى أي مكان من العالم, وبخاصة الى منطقة الخليج البترولي, عندما تدعو الحاجة, ولدى أول بادرة تدل على أن أزمة طاقة ما تهدد المصالح الحيوية للدول الغربية الصناعية.
والخطير أن معظم المراقبين السياسيين والدوائر الدبلوماسية في العالم لا يراودها أي شك في اعتزام الولايات المتحدة على الاقدام على هذه الخطوة الجنونية حتى ولو أدت الى احتراق منابع البترول بدل احتلالها!
كل ذلك يحدث على مسرح هذا الشرق الاوسط, في الوقت الذي يتعانق فيه الجباران في فيينا ويطلقان الوعود والعهود بمستقبل للبشرية زاهر, وسلام للعالم شامل, وحياة للناس أفضل وأكرم (انتهى)
___________________




