العقيد القذافي - Page 7
الفاتح من سبتمبر
ليبيا:لا لقاء مع مصر
داود الصايغ من طرابلس( الصياد:حزيران 1974)
أيام قليلة هذا العام تفصل يوم العيد عن زمن الصيام، والموسم كله يبدو وكأنه فترة للمراجعة والتأمل. وفي طرابلس تميزت ذكرى الثورة هذه المرة بوقفة جديدة يصفها أصحابها بأنها عودة إلى الينبوع إلى ينبوع الفاتح الذي أصبح منذ ست سنوات عنوان الحياة الجديدة في ليبيا.
حياة جديدة؟ هذا ما أرادته الثورة، كما تريده كل ثورة عند قيامها. والليبيون اليوم، قبل الآخرين، يقفون على مشارف السنة السادسة لتاريخهم الجديد ليجروا الحسابات الدقيقة مع أنفسهم ومع غيرهم.
وكم من كلام منذ ذلك الحين سال على ورق التاريخ وغير التاريخ في الحديث عن التجربة الليبية وعن معمر القذافي ورفاقه. وما زال الناس – والعرب – منقسمين حول الرجل وأفكاره وأهدافه وطموح بلاده، أو طموحه لها. والقادم من بيروت هذه الأيام لا بد له أن يقف قبل غيره ربما ليتساءل ويسأل عن كل ذلك، وبيروت أكثر العواصم المعبأة بالعواطف المتناقضة حول ليبيا.
وطرابلس تعرف ذلك وترحب بالجميع فالاختيارات هنا واضحة، وعلى من لا يتقبلها أن يتفهمها على الأقل، المهم أن تبقى الثورة ثورة في تفكيك أصحابها وفي ممارستهم لها مهما جرى في الطريق. ومن يسمع الكلام الذي يقال هنا عن النظام المصري والرئيس السادات مثلاً يسهل عليه بعد ذلك فهم الكثير من جوانب الإطار الفكري للنظام الليبي، ومن مرحلته القادمة إلى حد ما.
• هل الفترة القادمة فترة تصلب؟
"إنها نوع من التصلب مع الحق"، يقول وزير الدولة لشؤون الإعلام محمد بلقاسم الزوي. في الداخل والخارج معاً. وفي المجالين كلام واضح. والحق بالطبع هو الذي تؤمن به الثورة الليبية.
قد تكون طبيعة الأرض هنا لا تعرف الظلال الكثيرة أو المطارح التي يتراوح فيها الظل والفيء. فالشمس الواقفة أبداً في كبد السماء تنشر نوراً لا يتلاشى إلا على رؤوس النخيل العالي وسطوح المنازل البيضاء. وفي أول المساء يزول الهجير وتستكين المدينة مع هبوب الريح البحرية، فتزدهر الأرصفة بالمتنزهين الهادئين الذين يلفت صمتهم أحياناً بعض المتتبعين للحياة الليبية والمتسائلين عن أسباب هذه الصرامة الظاهرة في العيش، التي لا تبررها أحوال بلاد مزدهرة قادرة ومتمكنة من مصيرها.
طرابلس بيضاء تنشر بيوتها المنخفضة على طول الشاطىء وسط لمسة إيطالية ما زالت ظاهرة في قلب المدينة وشوارعها، وإن كان يطالع الزائر بين الحين واآخر ما يشهد على زمن العثمانيين أو ما قبله بكثير. والأثواب البيضاء التي تغمر أجساد النساء وتغطي الرجال على طريقة المشالح الرومانية تزيد من بياض المدينة وحقيقة تأصلها في استقبال الضوء والشمس.
فقلب المدينة ليس مقفلاً كما يخيل إلى البعض لأول وهلة. والليبيون يسقطون عن وجوههم بعد اللقاء الأول هذا القناع القاسي الذي يخفي خلفه وجه الإنسان ابن الأرض والصحراء الذي عانى الكثير وورث الكثير. ففي المجتمع الليبي العديد من الخصائص الموروثة التي طفت على السطح يوم أخذت ليبيا طريقها صوب المجتمع النفطي وتفتحت عليها العيون من كل صوب إلى درجة صح معها القول في يوم من الأيام أن "التكامل الاستعماري" تحقق فيها. تحقق في مجتمع مقهور تصعب فيه ممارسة الهوية الحقيقية بسبب تعاقب الغرباء وتنازع مصالحهم وتخاذل الحكم المحلي. من مستوطنين إيطاليين إلى حماة إنكليز إلى فرنسيين وأميركيين مرابطين، كل هؤلاء مروا في أرض ليبيا وأقاموا فيها علماً بأن الاحتلال الإيطالي استمر 20 عاماً حتء يستقر، ما بين 1911 و1931.
كل ذلك ترك من الآثار النفسية ما لم يعرفه أي مجتمع آخر في شمالي أفريقيا. فالليبي هو غير التونسي تماماً وغير المغربي والجزائري أيضاً. إن الليبي هو مع الليبي قبل كل شيء. يشد الليبيين بعضهم إلى بعض نوع من العلاقات لا تعرفها الكثير من المجتمعات الأخرى، وتجعلهم متضامنين في البدء ضد الأجنبي – والغريب أحياناً – ثم في ما بينهم على نحو العلاقات القبلية المعروفة، وإن كان الانصهار حاصلاً بين مختلف فئات الشعب الليبي. وينعكس ذلك على صعيد القانون في أمور عديدة منها انعدام القساوة في تطبيق أحكام السجن مثلاً بما يشبه أحداث القوانين الغربية في هذا الصدد. وكم كانت دهشة بعض الزائرين كبيرة عندما شاهدوا في أحد فنادق طرابلس سجيناً جاء في زيارة وقال إن عليه أن يرجع إلى السجن في اليوم التالي! وفهم الحضور من السجين نفسه أنه يجيء إلى بيته في استمرار ويقابل عائلته كما أن سجنه هو مكان بعيد جداً عن مواصفات السجون. وهذه التدابير الحديثة، التي جاءت مع الثورة وطبقت حتى على السجناء السياسيين تلتقي في الحقيقة مع أحداث التدابير المعمول بها في الأنظمة المتقدمة. ومنها أيضاً قوانين الضمان الاجتماعي والتسليف والتسهيلات المعيشية التي يمكن القول معها أنها لا تترك أي ليبي في وضع معوز.
فهل تغير الإنسان الليبي؟
قد لا يكون من السهل الحكم على ذلك في مدى ست سنوات، خاصة وأن الهدف الأساسي كان وما زال التغيير الشامل وليس فقط تغيير نظام الحكم. فتحققت بعض الأمور بسرعة وربما بسهولة، مثل إنهاء الاستعمار كلياً وترحيل الإيطاليين (12 ألف منهم رحلوا في يوم واحد) والشعور بالسيطرة على المقدرات الوطنية والإمكانيات المادية وحرية التحرك السياسي والثوري في أي اتجاه كان ضمن الخط الفكري الذي يؤمن به النظام الجديد. وقد كان لتحقيق مثل هذه الإنجازات العامة أثر على بعض الممارسات الأخرى في رأي عدد من المراقبين، مثل استسهال بعض الأمور كتحقيق الوحدة مثلاً أو سواها من الاختيارات التي وإن كانت تنسجم مع الأهداف الرئيسية إلا أن تحقيقها وخاصة بالنسبة إلى الآخرين، كانت وما زالت من المسائل الصعبة. ومشاريع الوحدة مع مصر من جهة ومع تونس من جهة أخرى شواهد على ذلك.
وكما هو طبيعي كانت هناك أيضاً خيبات داخلية بالنسبة ربما إلى سرعة التجاوب التي توخاها المسؤولون في عدد من الأمور، وإن بقي ذلك غير ذي أثر على حقيقة الاتجاه. ولعل في هذه المرحلة الجديدة التي بدأت مع الذكرى السادسة ما يؤكد على الإصرار رغم كل شيء، ورغم الإقلال في الكلام حول ما أشيع عن حركة ما أحد أركانها الرائد عمر المحيشي، عضو مجلس قيادة الثورة الذي يقيم الآن خارج ليبيا.
فشوارع طرابلس مليئة بالشعارات المختلفة، منها ما يحمل معنى العنف في التأكيد على حماية الخط الثوري. والزائرون الأجانب الكثر الذين شاركوا في أعياد الفاتح من سبتمبر أحب بعضهم أن يقرأ في الكتابات ما يفسر رداً على شائعات محاولة الانقلاب.
هل كانت هناك محاولة من هذا النوع وما هي ومن هم أبطالها؟
وزير الدولة لشؤون الإعلام محمد بلقاسم الزوي قال لـ"الأسبوع العربي":
"الثورة الليبية تلتزم بالصدق والصراحة. وأن ما جرى هو الآن قيد التحقيق وسوف يعلن عن كل شيء عندما تظهر النتيجة وفي انتظار ذلك لن يعلن شيء.
• اسم الرائد عمر المحيشي مرتبط بما جرى؟
- قد يكون عمر المحيشي هو الرأس وقد لا يكون. فالثورة تحصل ضدها مؤامرات وهناك مغامرون. على أن ما حدث في الفاتح من سبتمبر لا بد وأن يتحول إلى ثورة حقيقية. وهناك ثوار يسقطون على الطريق.
• وما هو الوصف الحقيقي لما حصل؟
- الوصف الحقيقي لم يعط بعد. هل أن واحداً انحرف بتفكيره أو أصيب بالتعب أو بالانهيار؟ أم أن هناك مجموعة من الموتورين والحاقدين؟ أم أنه تنظيم معين مدروس ووراءه قوة معروفة؟ كل ذلك لم يعرف بعد. فإذا كانت القضية مثيرة مثلاً من الناحية الإعلامية والصحافية إلا أنها ليست كذلك من الناحية الثورية، فالقبض على عدد من الناس والتحقيق معهم مسألة عادية.
• ومن يتولى التحقيق؟
- القوات المسلحة تتولى التحقيق.
ويضيف وزير الدولة لشؤون الإعلام:
"يهم ليبيا أن تؤكد للشعب العربي ولقواه المتعاطفة مع ثورة الفاتح من سبتمبر أن الثورة قوية جداً وأن القوات المسلحة سليمة ومعافاة وأن قوى الشعب الحقيقية متحالفة تحالفاً نهائياً مع الثورة وأن مصير الشعب مرتبط بالثورة.
ولن تستطيع الأيدي الآثمة أن تنال بسهولة من ثورة الفاتح من سبتمبر.. فالثورة ليست عملاً انقلابياً ومهازل الانقلابات لن تتكرر لأنها سفهت الجماهير العربية، وأن الشعب العربي في ليبيا ليس مستعداً لتكرار مهازل الانقلابات التي حصلت في الماضي.
- العيد السادس هو بالضبط كيوم الفاتح نفسه. كأنه تجدد للثورة. وفي الماضي كنا نعالج كل الأفكار، ومن كانت عنده فكرة كنا نناقشه فيها، ولكننا صرفنا جهداً ووقتاً كبيرين على كل هذه المناقشات. ولن يحصل ذلك بعد الآن. فخطنا واضح، وليس من الصعب علينا التمييز بين الأصدقاء والأعداء أينما كانوا.
"كل عيد يعطي دفعة جديدة. فالثورة هي بشر والبشر محتاجون إلى الحماس وإلى تعميق الوعي. والثورة تنزل دائماً إلى الجماهير، وميزة الثائر أنه يحس بهموم الجماهير قبل أن تحس هي بها. وكل ذلك مرتبط، في اختياراتنا، بالأمة العربية وبمسؤولياتنا العربية. فهناك خيانات وأنظمة متهالكة وارتماءات في أحضان الاستعماريين وطعن للكبرياء وتفريط بالحقوق، وكل ذلك يدعنا نعتقد أن للجمهورية العربية الليبية مسؤوليات ضخمة جداً وأننا الصوت الوحيد الذي يعبر عن ذلك، مما يجعلنا نحرص على استمرار الثورة بعنف وبإصرار، وعلى عدم المهادنة مع أي معاد كان سواء بالقول أو بالفعل.
• الأعداء، من هم؟
- يتكشف علينا أعداء كثيرون. فالعدو ليس بالضرورة العدو المحدد. ففي مرحلة الاشتراكية أعداء، وفي مرحلة الحرية أعداء، وفي مرحلة الوحدة أعداء. وهناك مروجو الشائعات والعملاء وسواهم. وجماهير الثورة ستصفي الحساب معهم. ولكن هناك سحق هذه المرة. كل واحد سيتحرك سيسحق. هذه ثورة للفقراء وثورة بحق. فالشعب سينتصر والأمة العربية ستنتصر. وحزب الله دائماً هو الرابح. ونحن مقتنعون بأننا في جانب الحق. وهناك من سينكشف لأن بين الثوري والرجعي أحياناً خيطاً رفيعاً.
" ثم إن المستعمر مستهدف لنا، ولذا يجب أن تكون صفوفنا نقية. وهذا كله يقتضي المزيد من ا.نجازات الاشتراكية. فالزحف الثوري سيتجدد والثورة ستجدد في شبابها. فنحن متصلبون في الحق في ليبيا والوطن العربي، وفي هذا المزيد من المقياس. فنحن حزب الحق وعلينا أن نتكاتف مع كل الشرفاء وأن لا نوفر فرصة للعدو.
• انطلاقاً من هذا المقياس ما هو موقفكم إزاء ما يجري في مصر؟
- الأغلبية العربية ليست مع الصلح، ولذا نحن لسنا مع السادات ولا مع الصلح، نحن مع الأغلبية. فلو أمكننا وقف السادات بالقوة لأوقفناه. مصر جزء منا. ولكن، للأسف، ليست عندنا القوة لذلك. فالسادات سوف يذهب في غبار التاريخ وهذا مصير كل من ينحرف عن خط الثورة.
• لم يعد هناك من نقاط التقاء مع السادات؟
- ما من نقطة التقاء مع نظام السادات. إنه نظام رجعي ومرتد. نلتقي معه إذا رجع إلى حق الثورة والشعب. أو أن يقضي هو على الثورة هنا ونرجع إلى نظام رجعي يلتقي مع نظام السادات. لن نلتقي به إطلاقاً ما دمنا في الثورة، ونلتقي به إذا كنا رجعيين".
ويضيف محمد بالقاسم الزوي:
"في ليبيا قائد ثورة الرؤية واضحة بالنسبة إليه، والثورة ليست هواية بالنسبة إليه بل إنها عشرات السنين تحت الأرض ومعاناة يومية. ولن يكون من السهل على أي مغامر أن يعبث بالثورة، ولن تستطيع الرجعية أن تقضي على الثورة. فالقذافي مفرز من آلام ومعاناة على طول عشرات السنين".(انتهى)
________________________




