التوطين - Page 5

Tuesday, 20 October 2009 14:20 | PostAuthorIconWritten by | PDF Print E-mail
Article Index
التوطين
Page 2
Page 3
Page 4
Page 5
Page 6
Page 7
Page 8
Page 9
Page 10
Page 11
Page 12
Page 13
Page 14
Page 15
Page 16
Page 17
Page 18
Page 19
Page 20
All Pages
Page 5 of 20

"المستقبل" تفتح ملفّ: الملفّ الفلسطيني في لبنان

المستقبل، العدد61، 22 نيسان – أبريل 1978
غسان بيرم

بعد دعوة مجلس النواب اللبناني إلى جلسة يوم الخميس في 20 نيسان الجاري لمناقشة قضية الوجود الفلسطيني في لبنان أو ما عرف بالملف الفلسطيني. بعد هذه الدعوة تهيب الجميع الموقف بما في ذلك الفئات التي كانت تلح على عقد جلسة من هذا النوع يتخذ فيها قرار لبناني من الوجود الفلسطيني في لبنان.
فعندما يكون مجلس النواب اللبناني مدعواً لمواجهة مشكلة من هذا النوع هي أكبر من لبنان لأنها أكبر من العرب لم يحن أوان حلها دولياً فإن النتيجة لا يمكن أن تأتي بحلول إيجابية فاعلة على الإطلاق بل ربما تكون هذه الجلسة وما يتخللها من مناقشات مدخلاً جديداً إلى صراعات لبنانية تكرس ما هو قائم الآن من واقع انقسامي في الرأي والرؤية والعيش والتعايش.
وخوف البعض من جلسة وفق هذا التصور لما قد يسفر عنها جعل الانقسام في الرأي حولها قبل الدعوة إليها. وقد برز هذا الانقسام خلال مرحلة التمهيد والتحضير التي قام بها رئيس مجلس النواب السيد كامل الأسعد وذلك عندما أصرت الجبهة اللبنانية على عقد هذه الجلسة تحت شعار أن خطر الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان بلغ مداه بعد أن اتخذت منه إسرائيل ذريعة لاحتلال الجنوب، وبلغ مداه في لبنان بحيث أصبح يستوجب موقفاً لبنانياً واحداً يمكن به التصدي لهذا الخطر كما يصفونه، وبالتالي فإنه آن الأوان بعد محنة لا تزال مستمرة منذ ثلاث سنوات، أن يتفق اللبنانيون على معنى السيادة والولاء للبنان وهما الأمران اللذان يتعارضان مع استمرار الوجود الفلسطيني المسلح، ذلك أنه لا تزاوج بينهما ولا تعايش. بين من يختار السيادة والولاء وبين من يختار استمرار هذا الوجود المسلح تحت أي ظرف من الظروف.
والفريق اللبناني الآخر الذي عارض هذه الجلسة من حيث المبدأ هو بأكثريته من القيادات الإسلامية والقيادات الممثلة لتيارات عربية مختلفة في لبنان. من حيث المبدأ اعترض هذا الفريق على التوقيت ورأى أن البحث بهذا الشكل في ظل استمرار الاحتلال الإسرائيلي هو توقيت سيء وأنه إذا كان من الضروري بحث قضية الوجود الفلسطيني في لبنان للوصول إلى صيغة لا تميت الذئب ولا تفني الغنم، بمعنى أنها تؤمن سيادة الدولة الكاملة في لبنان وفي الوقت نفسه لا تلغي الثورة الفلسطينية فإن هذا البحث يجب أن يكون مؤجلاً إلى ما بعد زوال الاحتلال الإسرائيلي لكي لا يستوي الأمران معاً ولكي لا تتخذ إسرائيل من أي مواجهة سياسية حول معنى وشكل وحجم الوجود الفلسطيني مبرراً لوقف انسحابها.
حيال هذا الانقسام في الرأي حاول رئيس مجلس النواب أن يوجد حلاً وسطاً بعد أن وضع أمام موقف استحال عليه صرف النظر عن الجلسة ورأى أن جلسة "تنفيس" من هذا النوع أفضل من ترك الأمور تتفاعل سياسياً وتتخذ أشكالاً وطنية حذرة وكان حله الوسط هذا أنه أبعد موعد الجلسة إلى 20 نيسان الحالي أملاً بأن هذه الفترة التي تفصل بين موعد الدعوة وموعد الجلسة ستشهد الانسحاب الإسرائيلي وهكذا وجه الدعوة تحت عنوان "البحث في الأمور المصيرية المتصلة بلبنان" دون أن يستعمل عبارة فتح الملف الفلسطيني. إلا أن هذا التحوير في مضمون الدعوة لم يلغ الهدف الأساسي منها بعد أن وضعت البلاد في هذا الجو وأصبح معروفاً أن الجلسة هي من أجل الملف الفلسطيني وأن أي موقف يسفر عنها سيتناول بالتحديد موضوع الوجود الفلسطيني المسلح بشكل خاص.
ولأنه لم يلغ الهدف منها وهو الهدف الحذر الخطر من حيث طرحه بكل تفاصيله والذي يدخل تحقيق موقف لبناني منه في قائمة المستحيلات، لأنه كذلك، نشطت الاتصالات على مختلف الأصعدة السياسية وبدأت المحاولات اللبنانية تسير في أكثر من اتجاه، اتجاه يحاول أصحابه الوصول مسبقاً إلى صيغة قرار، موحد يخرج به مجلس النواب، واتجاه يوظف أصحابه كل الإمكانات المساعدة على فرط الجلسة أما عن طريق الوصول إلى اتفاق على إلغائها أو عن طريق حصول غياب نيابي كبير يمنع اكتمال نصابها القانوني واتجاه آخر يقول إنه إذا استحال الوصول إلى تفاهم مسبق وبما أن مقاطعة الجلسة تعد موقفاً سلبياً يدل على أن المقاطعين هم الذين يريدون أن تبقى الأمور كما هي عليه لذلك فلا بأس إن عقدت الجلسة وأدلى كل فيها دلوه وقال ما عنده وما عند سواه وتنتهي الجلسة بدون اتخاذ قرار وذلك بإبقاء البحث معلقاً بحجة انتظار التطورات.
وكان أبرز ما يميز به هذا التحرك اللقاء السياسي الذي دعا إليه في منزله وزير الخارجية والدفاع السيد فؤاد بطرس وضم عدداً من السياسيين والنواب تناول البحث فيه كيفية التفاهم على اجتياز "قطوع" هذه الجلسة دون الوقوع في مطبات الملف الفلسطيني ورماله المتحركة وانتهى اللقاء إلى تأليف لجنة تضم ثلاثة نواب منهم نائبان عرف عنهما بأنهما من فطاحله المحامين اللبنانيين في الدعاوى الجنائية فضلاً عن حنكتهما السياسية هما الشيخ بهيج تقي الدين والنائب نصري المعلوف وتضم اللجنة معهما نائباً ثالثاً، وهو محامي أيضاً هو الشيخ بطرس حرب وكلفت هذه اللجنة بأن تدرس "الملف الفلسطيني" بكل تعقيداته وظروفه وملابساته وتضع بشأنه مشروع حكم لبناني بهذه القضية يعرض على مجلس النواب ويصدره المجلس باسم الشعب اللبناني. والمقصود هنا أن تضع هذه اللجنة مشروع توصية يلتقي على تأييده الجميع وتختتم جلسة الملف بالتصويت عليه.
والنائبان بهيج تقي الدين ونصري المعلوف يقولان أنهما في تاريخهما الطويل رافعا أمام المحاكم بأكبر القضايا وأكثرها تعقياً وكانا يخرجان منها بانتصارات كبيرة يسجلها لهما قصر العدل اللبناني، إلا أنهما لم يواجها في حياتهما السياسية والعدلية قضية شائكة معقدة كالقضية التي طلب إليهما إيجاد حكم عادل يرضى عنه الجميع كهذه القضية لأنها قضية لها أول وليس لها آخر في مجلد كبير يحوي على مجموعة كبيرة من الملفات وكل ملف ينطوي على دعوى مختلفة عن الأخرى، منها الجنائية ومنها الحقوقية ومنها السياسية، أطراف النزاع فيها عديدون لبنانيون وفلسطينيون وعرب وأميركان وسوفيات وإسرائيليون لكل منهم معادلاته ومصالحه... إنها في النهاية القضية الكبرى التي عمرها أكثر من ثلاثين سنة قضية متداخلة في بعضها البعض، يصر الرئيس شارل حلو على وصفها بأنها قضية صراع تاريخي على السماء أكثر مما هي قضية صراع على الأرض بين العرب وإسرائيل أو بين الأديان التي ولدت على هذه الأرض المقدسة.
قضية بهذا الحجم وبهذه الضخامة كيف  يمكن لمجلس نواب لبنان أن يحسم ويحكم بشأنها، ويتساءل الرئيس تقي الدين الصلح هل يمكن أن يكون اللبنانيون أقوى من العرب مجتمعين ومن ثم هل ستكون قدرة اللبنانيين أقوى من قدرة الدولتين العظميين على الحسم وإذا كانت، القدرة اللبنانية – فرضاً – أصلب من القدرة العربية ومن قدرة الجبارين العالميين فهل ستسمح لعبة الأمم لهذه القدرة اللبنانية أن تكتمل لتحسم في قضية لا تزال تتفاعل دولياً وعربياً وإسرائيلياً قبل أوان الحسم الطبيعي بنظر الدولتين الأعظم؟
فعندما توافق العرب على فتح هذا الملف في مؤتمر قمة الرياض لم يستطيعوا الذهاب إلى أبعد من ملامسة هذا الملف وعندما قرروا لم يستطيعوا الذهاب إلى أبعد من إرسال قوة رع عربية لوقف القتال في لبنان بعد أن كبر حجم هذا القتال إلى درجة التهديد بحروب عربية أخرى؟
وعندما دعي مجلس الأمن الدولي لمناقشة قضية احتلال إسرائيل لجنوب لبنان حصر بحثه في كيفية حمل إسرائيل على الانسحاب ووضع عازل دولي (قوات دولية) بينها وبني الأرض اللبنانية دون أن يجرؤ على فتح الملف الفلسطيني لأن قضية هذا الملف كبيرة وثقيلة يستحيل على إحدى الدولتين الكبيرتين، أميركا والاتحاد السوفياتي حمل أعبائها بمفردها دون أن يقوم بين الدولتين الأعظم وفاق أكيد على حل هذه المشكلة. وما دام هذا الوفاق الدولي لم يتحقق في الشرق الأوسط فإن المشكلة في لبنان باقية وهذا ما دعا رئيس الكتائب للبنانية الشيخ بيار الجميل لأن يقول للسفير الأميركي في بيروت عند اجتماعه به في الأسبوع الماضي "أن أميركا والاتحاد السوفياتي هما الدولتان اللتان لهما الكلمة الفصل في العالم وهما عملاقا الديمقراطية والحرية والحضارة الإنسانية، لذلك حرام عليهما أن يتفرجا على هلاك لبنان، من دون أن يقوما بأي عمل جدي وحاسم لإنقاذه".
في زحمة البحث والجدل عن مصير جلسة الملف الفلسطيني وكيف تكون ولماذا لا تكون، انفجر القتال على جبهة عين الرمانة – الشياح جنوبي مدينة بيروت وهي الجبهة التي كانت منذ انفجار حرب السنتين أكثر الجبهات حساسية وتوتراً لا بل كانت وبقيت هي الجبهة الأم التي اندلعت منها الحرب منذ البداية.
وخطورة الأمر أن اشتعال هذه الجبهة في هذه المرة كان بأسبابه وظروفه وعناصر المتقاتلين أو المتحاربين فيها كان مختلفاً تماماً عن المرات الماضية، فالقتال هنا كان له طابع آخر ينفجر بين قوة الردع العربية بأكثريتها السورية وهي القوة المعتبرة بأنها قوة الشرعية وبين جبهة عين الرمانة التي تتمركز فيها قوات الجبهة اللبنانية من كتائب وأحرار وتنظيمات أخرى حليفة.
ولم يعد المهم هنا من افتعل ومن بدأ هذه الحوادث ولا كيف انفجرت بقدر ما أصبح المهم والمهم جداً هو، لماذا انفجرت هذه الاشتباكات وما أهدافها الأمنية والسياسية ولماذا جاء توقيتها هذا الحين بالذات؟
فالذين اعتبروا أن الهدف من ذلك كان محاولة لفتح معركة تدويل الوضع اللبناني وجعل رقعة وجود القوات الدولية تمتد من الجنوب حتى النهر الكبير في الشمال، فإن هؤلاء اتخذوا من نتائج حرب الأيام الخمسة على محور عين الرمانة – الشياح دليلاً على فشل هذه المحاولات في الوقت الحاضر على الأقل دون أن يسقطوا من حساباتهم احتمالات تجدد هذه المحاولة بشكل أو بآخر.
غير أن الذين اتخذوا من مجمل هذه المعارك مبرراً للقول بأن الغاية منها ربما تكون إجراء تعديلات على بعض التوازنات السياسية والأمنية التي كانت قائمة بهدف تصغير بعض الأحجام الكبيرة وتكبير أحجام أخرى صغيرة لخلق توازنات جديدة على الساحة اللبنانية، فإن الحكم على نجاح أو فشل هذه المحاولة بنظر هؤلاء غير ممكن بشكل كامل وإن كانت الدلائل الأولى تشير إلى احتمالات نجاحها وإلى أن الانتقال من الحوار بواسطة العنف إلى الحوار السلمي بالكلام والرسائل المتبادلة هو الذي سيقرر في النهاية إما العودة إلى لغة العنف أو جعل الأوضاع تتركز على أسس أمنية جديدة تقوي بالتالي من قبضة الشرعية اللبنانية على الأوضاع ومن قدرتها على التحرك سياسياً لإيجاد الحلول اللبنانية التي تدفع بالأوضاع نحو الاستقرار الطبيعي القادر على التعايش مع ما هو موجود على الأرض اللبنانية ومفروض عليه من الخارج حتى ينتهي الأمر إلى صيغة حل للصراع العربي – الإسرائيلي في المنطقة.
يبقى الشيء الأهم من هذا كله وهو الذي لا يمكن أن يكون سبباً ودافعاً لأية حوادث بقدر ما هو نتيجة، ذلك السؤال المطروح بين حين وآخر لمعرفة ما إذا كانت قوات الردع العربية قد نجحت في ضبط الأمن اللبناني وخلق ضوابط قوية تمنع بشكل أو بآخر تجدد القتال واتساع رقعته على الساحة اللبنانية. وعندما يوجه مثل هذا السؤال في أي حين لا بد وأن تكون سوريا هي المعنية أولاً بالأمر خاصة إذا ما سلمنا بأن مقررات قمتي الرياض والقاهرة لم تكن إلا بوحي من المبادرة السورية الأساسية إن لم تكن غطاء عربياً لها.
والذي تشير إليه المواقف القريبة والبعيدة، والكبيرة والصغيرة هو أنه من غير المسموح، سورياً أو عربياً فشل أو انهيار هذه المبادرة العربية الأمنية في لبنان بل إن هناك أكثر من جهة ومعادلة دولية ترفض مثل هذا الفشل ولا تسمح به، وقد كان وزير الخارجية الفرنسية لوي ديغرينغو في تعليقه على الأحداث الأخيرة خير معبر عن هذا الموقف الدولي الراهن عندما أكد على ثلاثة أمور.

أولاً: إن مهمة القوات الدولية محصورة في الجنوب فقط وأن إمكانية تدويل المعارك الداخلية في لبنان ليس من سبب أو مبرر لها ونأمل ألا يكون ما حدث في الأيام الأخيرة (معارك عين الرمانة) أكثر من هبة عنف.

بيار الجميل: الفلسطينيون أضاعوا قضيتهم وخسروا تأييد اللبنانيين

وللمشكلة اللبنانية – الفلسطينية عند رئيس حزب الكتائب الشيخ بيار الجميل أكثر من ملف، وحديثه عنها شرح يطول وإذا تسنى لك أن تجلس أمامه مستمعاً لخرجت بصورة مأساوية لها عدة وجوه، ففيها مأساة لبنان عند العرب ومأساة العرب في لبنان، ومأساة لبنان مع الفلسطينيين ومأساة الفلسطينيين مع العرب واللبنانيين. وحديث رئيس حزب الكتائب اللبنانية عن المشكلة يبدأ ولكنه لا ينتهي. لماذا؟ لأن القضية بنظر الشيخ بيار لم تنته.
* وإلى متى سيبقى هذا البلد مسرحاً لسفك الدماء والتدمير؟.
- يجيب زعيم الكتائب اللبنانية قائلاً: إلى أن يدرك العرب بجرأة عمق المأساة التي نعيشها. وإلى أن يتخلوا عن الغوغائية والديماغوجية ويعملوا ويفكروا بعقلهم أكثر من عاطفتهم، أو يفكروا بعقلهم وبعاطفتهم معاً، فشجاعة بدون عقل مصيبة، وعقل بدون شجاعة كارثة. فإلى متى هم غافلون عما يصيب ويحل بلبنان، الله أعلم! وكأني بهم يفهمون مشكلتنا ويتغاضون عنها أو كأنهم لا يريدون فهم حقيقة المشكلة والعمل بعقل وشجاعة على حلها.
هذا أمر مؤسف. مع أن لبنان الذي هو واجهة العرب خدم القضايا العربية والفلسطينية منها بنوع خاص وما عمل يوماً ما يسيء إلى العرب وقضاياهم بل العكس هو الصحيح والتاريخ والوقائع خير شاهد على ذلك.

ثانياً: إن قوات الردع العربية تدخلت ومن الممكن دائماً أن تتوصل إلى وقف القتال.

ثالثاً: إن القوات الفرنسية في لبنان ليست لديها تعليمات خاصة سوى كونها تحت إمرة قائد القوات الدولية المحصورة مهمتها في الجنوب اللبناني.


طوني كليفتون مندوب مجلة النيوزويك الأميركية في المنطقة قال وهو يودع مهمته هذه بعد نقله إلى مكان آخر: إن دورات العنف ستستمر حتى التقاء الشيء الذي لا يمكن تحريكه (أي الفلسطينيين) مع القوة التي لا يمكن صدها (أي الإسرائيليين) حتى يتم لهما إما تدمير بعضهما البعض أو الاتفاق على العيش سوياً.
والسؤال هو: أين لبنان من هذه المعادلة التي سيبقى الصراع العربي – الإسرائيلي يفرضها إلى أن يأتي السلام الشامل والدائم إلى هذه المنطقة؟
ويضيف الشيخ بيار:
لا أظن أحداً في هذا العالم العربي استقبل الفلسطينيين وأعطاهم الضيافة التي قدمها لهم لبنان، فاستقبلهم وفتح لهم المجال واسعاً ورحباً للعيش والعمل وخدم قضيتهم على مختلف الأصعدة وفي شتى المجالات المعنوية والمادية والسياسية وقدم لهم صيغة تعايش أبنائه التي هي الصيغة الحضارية الفريدة في العالم، قدمها لهم كشاهد حي ضد العنصرية ولذلك أنا لا أستبعد أن تكون إسرائيل قد عملت من أجل ما أصابنا لكي تضرب هذه الصيغة. هؤلاء الفلسطينيون نزلوا علينا في لبنان كأشقاء وأصدقاء ولا أريد أن أستعمل كلمة لاجئين فجعلنا من قضيتهم قضيتنا فلأننا قبلهم وقبل قضيتهم فهمنا هذه القضية فحذرنا منها وكشفنا مخاطرها ودعونا إلى التصدي لها حتى قبل "هرتزل". فإسرائيل لم تولد بين يوم وآخر، واليهود بدأوا معركتهم قبل أن يقيموا دولتهم ولم يستعملوا السلاح في البداية بل بدأوا بالدعاية ومن ثم بتشجيع يهود العالم على الهجرة إلى فلسطين كزائرين وأرباب عمل وعمال فعملوا على شراء الأراضي وعلى تركيز أوضاعهم وتنظيم وجودهم حتى جاء الوقت الذي حملوا فيه السلاح وقاتلوا الفلسطينيين وطردوهم من بلادهم وأرضهم وبدأوا رحلة إقامة دولتهم. ولكن وبكل أسف وبدل أن يستعمل الفلسطينيون هذه القوة اللبنانية الكبيرة التي قوامها الحرية والديمقراطية والصيغة الحضارية وصداقات لبنان مع العالم وخاصة ملايين اللبنانيين المنتشرين في العالم فإنهم ضربوا كل ذلك عرض الحائط وبدأوا يقيمون العمل الفدائي في لبنان في الوقت الذي حذرناهم ونبهناهم من أن لبنان بواقعه ووضعه غير قادر على احتمال وجودهم الفدائي فيه فهو أضعف الدول العربية ولا يستطيع أن يدافع عن نفسه ولا عنهم خاصة وأننا مجاورون لإسرائيل التي لا بد وأن تضربنا وتضربهم في أول فرصة، ولكنهم رفضوا هذه النصيحة المخلصة وراحوا يعملون من أجل الوصول إلى اتفاق يكرس شرعية وجودهم على الأرض اللبنانية فكانت اتفاقية القاهرة، هذه الاتفاقية التي سبقها حوادث وصدامات كثيرة بين لبنان والفلسطينيين وذلك عندما وجدت تيارات خارجية مختلفة من يسار دولي وشيوعية دولية في المقاومة الفلسطينية مدخلاً لها إلى لبنان وبدات نشاطات هذه العقائد الخارجية تستعمل القضية الفلسطينية لتركيز وجودها في لبنان حتى أن القضية الفلسطينية لم تعد قضية لاسترداد الحق والأرض بل أصبح الفلسطينيون أو بعض الفئات منهم طوابير خامسة لكل التيارات الخارجية لهذه العقائد الشيوعية والتيارات اليسارية التي جاءت بواسطتهم إلى بلد كلبنان بلد الديمقراطية والحرية الذي اختار أبناؤه بالرضى وبعد الخبرة والتجربة نظامه الحر فكان لهم أفضل نظام وحقق لهم أحسن النتائج من ازدهار اقتصادي ومستوى معيشة لائق حتى أن الفلاح والعامل اللبناني بمستواه المعيشي كان مميزاً عن سواه في هذه المنطقة وأصبح دخلنا القومي أعلى دخل في هذه المنطقة. والأكثر والأهم من ذلك أن نظامنا هذا هو الذي حقق لنا هذه الصيغة اللبنانية الفريدة التي صنعها المسلم والمسيحي لتكنون نموذجاً للتعايش بين الشعوب والطوائف وكانت درساً لهذا العالم كله. وسواء شئنا أم أبينا فإن الطابع الأوروبي والغربي هو طابع مسيحي وأن الطابع العربي هو الطابع الإسلامي بينما لبنان وحده جمع بين هاتين الحضارتين الكبيرتين بالإضافة إلى أديان أخرى. فإذا كانت ثروة سوانا البترول والمعادن والصناعات الضخمة فإن ثروتنا هي هذا المناخ من الحرية السياسية والاقتصادية الذي جعل من لبنان مقراً لرؤوس الأموال العربية والأجنبية التي كانت تدر على لبنان مداخيل كبيرة حققت البحبوحة والازدهار فيه.
ولكن الفلسطينيين أخطأوا بحق لبنان وبحق نظامه واستقراره، فقضيتهم، قضية شعب شرد من أرضه وألغيت جنسيته هي – أعدل قضية، ولكن هذه القيم العظيمة التي تحملها قضيتهم استعملت لإدخال تيارات معينة مختلف عليها في لبنان بينما لم نكن مختلفين على قضيتهم. وخطأهم الجسيم أنهم ربطوا قضيتهم بهذه التيارات. ونحن من جهتنا كنا نحذرهم من خطر كل ذلك عليهم وعلى قضيتهم في لبنان ونقول لهم إن هذا أمر غير مقبول به في لبنان وإنه جريمة بحق قضيتكم وبحق لبنان السماح لعقائد هدامة تتستر بقضيتكم من أجل الدخول إلى لبنان والإطاحة بنظامه. إن مثل هذه العقائد كمثل رجل الدين الذي يتستر بثوبه لكي يقوم بعملية تهريب.
وتابع رئيس الكتائب حديثه قائلاً: وبالإضافة إلى هذا وقبل اتفاقية القاهرة كان الفلسطينيون يتعمدون القيام بأعمال لا تسمح كرامة أي لبناني بها وكانت تؤدي إلى حدوث احتكاكات، وإلى إخلال بالنظام العام حتى أصبحوا دولة ضمن الدولة أو فوقها ولا سيما بعد أن أصبحوا مسنودين من اليسار الدولي والشيوعية الدولية حتى آلت الأمور إلى ما آلت إليه من تعطيل لقدرة الدولة على صعيد الإدارة والقضاء وقوى الأمن والجيش. وكم من مرة كنا نعيد الكرة ونحاول مع القيادات الفلسطينية الواعية التي كانت تدرك أهداف معركتها الحقيقية من أجل فلسطين ولكن هذه القيادات لم تستطع الصمود في وجه ضغوطات ومخططات الشيوعية الدولية في لبنان والمنطقة.
وبهذه المناسبة أسأل ياسر عرفات: هل من أحد أعطى القضية الفلسطينية وأخلص لها أكثر منا نحن، كما أسأله بشرفه وضميره لو كان أخذ بنصائحنا هل انهارت المقاومة الفلسطينية في لبنان على هذا النحو، وأسأله: هل من صديق أكثر منا كان يصدقه القول ويرشده إلى الصواب ويقول له الحقائق كما هي بينما كان سوانا يتزلف له ويقول له ما يرضيه؟...
وبنتيجة كل هذه الأعمال التي كانوا يقومون بها بدأوا يطرحون وضع اتفاقية رسمية بينهم وبين الدولة. نحن كنا ضد هذا العمل. نحن كنا مع اتفاق ولكن غير رسمي وغير مكتوب وكنا نعتقد أن هذا الأمر هو في مصلحتهم هم، فعندما توقع الدولة اتفاقية رسمية مع عمل فدائي عندها لا يصبح هذا العمل عملاً فدائياً بل يتحول إلى عمل جيش نظامي، فضلاً عن أن وجود اتفاقية من هذا النوع يعطي إسرائيل دائماً المبرر لضرب لبنان واحتلال أراضيه. ونحن كما نفهم ونعرف العمل الفدائي أنه عمل ينطلق من كل أنحاء العالم وليس من لبنان فقط هذا البلد الضعيف بقدراته العسكرية التي لا تمكنه لا من الدفاع عن نفسه ولا من الدفاع عن الفلسطينيين. وقلنا لهم بعد وضع هذه الاتفاقية بأنكم الآن أعطيتم إسرائيل حجة لاحتلال لبنان ساعة تشاء بعد أن حافظنا على أرضنا وبقيت هي الأرض الوحيدة المحيطة بإسرائيل التي لم تجرؤ على احتلالها ليس بفضل قوتنا العسكرية بلبفضل صداقاتنا الدولية وبفضل وحدتنا الوطنية في حين أن هناك أراضي دول عربية هي أقوى وأغنى منا ولكنها احتلت، واحتلال هذه الأراضي طعن القضية الفلسطينية في الصميم والجوهر بحيث لم تعد قضية شعب وقضية وطن سليب بل أصبحت عند العرب قضية انسحاب إسرائيل وعدم انسحابها بضعة كيلومترات من أراضيها المحتلة.
وقبل الاجتياح الأخير الذي قامت به إسرائيل للجنوب بأكثر من سنة ونحن نرفع الصوت ونسأل أكثر المتطرفين فلسطينياً وعربياً وقومياً. هل إن هذا الوجود الفلسطيني في الجنوب بالشكل الذي كان عليه هو في مصلحة قضيتكم؟ وكنا نقول: إذا كان في مصلحة القضية فعلاً، وفي مصلحة استرداد الأرض فعلاً، فنحن معكم. أما وإنكم بذلك تستدرجون إسرائيل لكي تجني على لبنان والعالم العربي وإنكم بذلك تستعدون اللبناني عليكم بدل أن تربحوه فأصبح ضدكم وبدل أن يبقى لقضيتكم منبراً حولتموه إلى مقبرة لكم.
ولكن بكل أسف وهذا ما يحز في النفس، بدل أن يأخذوا بنصائحنا كانوا يمطروننا بشتى التهم والألقاب من انعزاليين، إلى انكماشيين إلى عملاء واستعمار رجعيين، خونة ضد القضية الفلسطينية والعمل الفدائي والعالم العربي. ولكن على كل حال كم أن هذا البلد الذي هو لبنان قوي حتى يتحمل كل ما تحمله ولا يزال موجوداً واللبناني الذي أدهش العالم بصموده، سيرون كيف سيدهش العالم بإعادة تعمير وطنه.
*
قلت لرئيس الكتائب اللبنانية: ولكننا لا نزال كما نحن من دمار إلى دمار ومن قتل إلى قتل، والنهاية؟
- قال: لقد طرقنا كل الأبواب ولم يبق مخلص ولا قاض ولا محكمة إلا وطرقنا بابه حتى يئسنا ولذلك قلت إن إيماني بلبنان كإيماني بالله ولا بد في النهاية من الخلاص، صحيح أن لبنان قد دمر اقتصادياً ومادياً ولكنه بشرعيته لا يزال موجوداً وسنعود إلى تعميره بأفضل مما كان.
*
وعدت أسأل الشيخ بيار: ولكن، الحل؟
- فأجاب: لا يمكن حل القضية اللبنانية إلا بمعالجة القضية الفلسطينية. الفلسطينيون موجودون بدون إرادتهم وبدون إرادتنا. وخلافنا ليس على هذا ولكن خلافنا على هذا الوجود المسلح الفوضوي المستعمل من كل التيارات الخارجية كطابور خامس. ولهذه المناسبة أسأل أي بلد عربي وغير عربي يقبل بهذا الشيء المفروض على لبنان وأي بلد يقبل بالتخلي عن سيادته وعن استقلاله. والمؤسف أكثر وأكثر أن هذه المقاومة لا تعرف لها "حرف من طرف" فلم تعد مقاومة واحدة بل مجموعة مقاومات وكل واحدة على خلاف مع الأخرى.
*
وقلت لرئيس الكتائب: بعد كل الذي جرى منذ ثلاث سنوات أين أصبحنا، هل قاربت نهاية المشكلة؟
- فأجاب: والله، لا نزال في "النفق" وفي كل مرة نعتقد أننا وصلنا إلى نهاية هذا النفق نعود ونكتشف أننا لا نزال في وسطه، تماماً كما لو أننا نحارب الطبيعة ونحن كبلد عضو في الجامعة العربية ويعد من أصغر الدول العربية وأرقاها وهو واجهة العالم العربي فهل من الحق والعدل والإنصاف أن يحمله العالم العربي هذا الحمل الثقيل وهو عبء عليه ليس من الناحية الاقتصادية والجغرافية فحسب بل هو عبء على صيغة التعايش فيه. ولكن للأسف لا أحد من العرب يريد أن يدرك ويسمع. وكم من مرة سمعنا منهم يقولون عن الفلسطينيين "الله يسعدهم ويبعدهم". هذا الموقف الذي جعلنا نكفر بكل هذه القيم وبهذا الواقع. حتى الكلام لم يعد له معنى وحتى المقاييس تبدلت واختلفت، فأن تكون أنت وطنياً تفتخر بوطنك وتؤمن بالله ودينك وأن تكون مهذباً، إذاً أنت رجعي، إما أن تكون وسخاً وغير مهذب وتفتخر بعدم إيمانك بالله وتفتخر بأنك مرتبط بعقائد وأيديولوجيات خارجية هدامة فأنت الوطني التقدمي.
في هذه الأثناء وصل إلى بيت حزب الكتائب موفد الرئيس حافظ الأسد العميد محمد الخولي يرافقه الرائد إبراهيم حويجي وعقدا اجتماعاً مع الشيخ بيار بحضور المحامي كريم بقرادوني عضو المكتب السياسي لحزب الكتائب وكان البحث حول تصفية ذيول معارك الشياح – عين الرمانة وكيفية تدعيم سلطة الشرعية وتثبيت الأمن.
*
وبعد انتهاء هذه الزيارة عدت إلى استئناف حديثي مع الشيخ بيار فسألته: قلت قبل قليل بأننا طرقنا كل الأبواب فلم نجد الحل وأصبحنا كمن يحارب الطبيعة. المعروف إن أي خطة عمل سياسية أو عسكرية لا تؤدي إلى حل أو نتيجة يفترض استبدالها بخطة جديدة، فما هي الخطة البديلة برأيكم؟
- قال: أهم شيء أن نتفق نحن اللبنانيين مع بعضنا البعض فاللبناني المسيحي والمسلم هو الوحيد الذي يفهم القضية اللبنانية. فإذا كنا متفقين يهون على كشيء والذي استطاع أن يبني لبنان على أساس هذه الصيغة التي توازن بين أعرق حضارتين يستطيع أن يحافظ عليها، فلبنان إما أن يكون بمسلميه ومسيحييه أو لا يكون. إذا علينا نحن اللبنانيين مسلمين ومسيحيين أن نجيب عن هذا السؤال: أي لبنان نريد؟
فإذا استطعنا الإجابة الصحيحة نمشي بصدق وإخلاص فما من وطن في العالم مهما كان قوياً وكبيراً يستطيع العيش وهو منقسم على نفسه. أنا أفهم أن تكون هناك خلافات على بعض الأمور ولكن لا أستطيع أن أفهم كيف يمكن أن يكون هناك خلاف على أساس الوطن وهويته، فالفرنسي يعتبر نفسه فرنسياً ويعتبر فرنسا فوق الجميع وكذلك المصري وكذلك الأميركي إلخ... إما أن يكون اللبناني يعتبر نفسه مصرياً أو عراقياً أو ليبياً أو سورياً قبل أن يكون لبنانياً فهذا هو الشيء الذي يخرب لبنان من زمان.
*
وأخيراً قلت للشيخ بيار: بقي عندي الآن سؤالان يدور الجدل حولهما الآن، السؤال الأول: بالنسبة لعقد جلسة مجلس النواب لبحث الملف الفلسطيني هل لا تزالون متمسكين بعقدها؟.
- فأجاب: إذا انت هذه الجلة ستعقد لتتحول إلى جلسة شتائم وتوسيع شقة الخلافات فلا أرى من الضروري عقدها ولكن إذا عقدت وسادها التعقل والمنطق فلا بأس بها فإنها تخدم المصلحة.
*
أما السؤال الثاني فهو: الفلسطينيون موجودون فإذا كننتم تعتبرون أن الطورات الأخيرة قد ألغت اتفاقية القاهرة فهل من بديل لهذه الاتفاقية يستطيع أن يحكم العلاقات اللبنانية – الفلسطينية؟
 - وبشيء من الاشمئزاز قال الشيخ بيار: لا زلت تتكلم عن اتفاقية القاهرة... المهم قبل كل شيء أن نتفاهم نحن اللبنانيين وعندها تسهل القضية 90%.

- صائب سلام: ننادي بتنظيم الوجود الفلسطيني وهذا يتم من خلال السلطة الشرعية

الرئيس صائب سلام الذي عايش ولادة الملف الفلسطيني في لبنان لا بل وشارك في صنع أكثر مراحل هذا الملف سواء من موقعه كسياسي أم من موقعه في السلطة كرئيس للوزراء في مرحلة امتدت من 1970 حتى 1973 وهي الفترة التي شهدت أفضل العلاقات بين السلطة اللبنانية وبين منظمة التحرير الفلسطينية. في تعريفه الموجز للملف الفلسطيني ومحتوياته يقول الرئيس صائب سلام أن هذا الملف الذي ينادي البعض بفتحه في لبنان هو في واقع الأمر ملف مفتوح منذ عشر سنوات بل ولنقل منذ 1948 يوم العدوان الإسرائيلي الأول وقيام الدولة الصهيونية على أساس طرد سكان فلسطين العرب من بيوتهم وأراضيهم بالعنف البربري الذي عرف به مناحيم بيغن وأترابه.
على أثر هذا العدوان نزل عدد كبير من إخواننا الفلسطينيين في لبنان ضيوفاً على الرحب والسعى وفتح لهم اللبنانيون قلوبهم وبيوتهم دون تمييز بين فئة وفئة. وتطور وجود الفلسطينيين في لبنان منذ عشر سنوات إلى مقاومة ناشطة وأخذت تتسلح بما يعينها على ثورتها لاستعادة حقوقها بعد تلك الهزيمة العربية الكبرى سنة 1967.
وهنا طبعاً أصبح الوجود الفلسطيني عند كثير من أبناء فلسطين وجوداً فاعلاً وليس وجوداً للاجئين مستكينين في مخيمات الذل والتشريد. وأخذ يخرج من بينهم شاب غر يستشهد وهو في ربيع الحياة استشهاداً بطولياً في سبيل قضيته وتحقيق أهافه السامية المشروعة فكان لا ب من نشوء علاقة جديدة بين اللبنانيين وبصورة خاصة بين السلطة في لبنان وبين تلك القوة الثائرة الجديدة التي ولدت على أرضه.
وللإنصاف يجب أن نقرر أن تصرف بعض الثوار لم يكن يتوافق تماماً مع ما يطلب من أناس نذروا أنفسهم ووضعوا أرواحهم على أكفهم من أجل أهدافهم السامية، ومن تصرف شاذ من هنا، ومن معاملة أكثر شذوذاً من هناك. كانت الأمور تتفاقم، وليس من الحق أن نبرر التصرفات الشاذة لبعض من حمل السلاح من الفلسطينيين ولكن لنعترف أن الضغط يولد الانفجار وأن الظلم يولد الحقد فكيف إذا كان ذلك بين جماعة عاشوا في مراتع الظلم وكانت ردات الفعل الحاقدة عندهم أمراً طبيعياً.
واستمرت هذه الحالة تتصاعد حتى سنة 1970 يوم تسلمت الحكم مع الرئيس سليمان فرنجية وبين 1970 و1973 جعلنا العدالة والإنصاف قاعدة للحكم كما جعلنا التشدد في ضبط الأمن وانضباط الجميع أساساً متوازياً مع ذلك. وإذ أدى هذا الأسلوب في الحكم إلى ضبط الأمن وإشاعة الاستقرار في لبنان وبين اللبنانيين فقد كان من نتيجته أيضاً أن أدى إلى انضباط الفلسطينيين والمقاومة الفلسطينية إلى أبعد حد ممكن، فانضبط الثوار وزالت معظم الشكاوى من تصرفاتهم وما يصدر عنهم من تجاوزات بل أكاد أقول إنها تلاشت تماماً خصوصاً وأن ما قام من ثقة متبادلة بين الحكم اللبناني والمسؤولين في المقاومة قد عاون معاونة كبيرة في التوصل إلى ذلك.
ولكن أتت سنة 1973 بعد حادث فردان المشؤوم في نيسان من تلك السنة واستقالتي من الحكم فتبدلت الأوضاع تبدلاً جذرياً.
ومرة أخرى لا أريد أن أبرر ما أخذ يصدر عن الفلسطينيين من تجاوزات غير مقبولة في كل النواحي ولكن النتيجة البديهية لهذا الوضع كانت عودة كثير من الفلسطينيين إلى ممارسة التجاوزات المستنكرة على كل صعيد في ظل فقدان هيبة الحكم ومعها ليس فقدان الثقة المتبادلة فحسب بل تصاعد الحقد والعداء بين المقاومة والسلطة، وأخذ كل ذلك يتفاقم حتى كانت سنة 1975 يوم ابتدأ تنفيذ المؤامرة في لبنان لا بسبب وجود الفلسطينيين فيه وحسب بل استغلالاً لما أصبح لبنان فيه من ضعف في حكمه السايب. ربما كان هذا الشرح مطولاً ولكنه في نظري يعطي صورة مختصرة عن ظروف الملف الفلسطيني قبل المؤامرة الكبرى التي وجدت لها من لبنان في تلك الظروف فريسة سائغة في الحلقة العربية الواسعة فأخذت تزكي بمختلف الأساليب الخفية وغير الخفية إشعال النار من هنا ومن هناك في الصدام الدامي الذي استمر أكثر من سنتين فدمر لبنان بجميع مرافقه كما أنهك المقاومة الفلسطينية وأصاب قضيتها في الصميم.
ويتابع الرئيس سلام قائلاً: والآن، فالأكثرية الساحقة من اللبنانيين تفتش عن الوسائل والطريق المجدي للتخلص من هذه المحنة القاسية. فلا يصح أن نحصر القضية في هذا السبيل بما يريد البعض أن يصوره للناس من أنه يقتصر على فتح الملف الفلسطيني، وتعبير فتح الملف بحد ذاته يعني على حد فهم أرباب القانون أنه إعلان للاتهام يجب التحقيق فيه وإدانة أصحابه وكأنهم هم وحدهم المسؤولون عن المحنة المستمرة، وعدا ما فيه من تجن واضح فيه أيضاً الضرر البالغ بإعطاء إسرائيل الذريعة التي تتطلبها وهي أن الفلسطينيين في لبنان هم حجتها الحقيقية. فالعدوان على لبنان واجتياح أراضيه ليس بسبب الفلسطينيين وحدهم.. بل لأن لإسرائيل أهدافاً لا تخفى على أحد.
ونحن لا نجاري المطالبة بفتح الملف الفلسطيني اليوم بالذات، انطلاقاً من أمرين:


الأول: هو أننا لا نقر إطلاقاً إعطاء إسرائيل هذه الذريعة التي تتطلبها إذ أن الواقع لا يقر إطلاقاً أيضاً بأن الدافع للعدوان الإسرائيلي واجتياح أراضي لبنان هو وجود المقاومة الفلسطينية فيه.
والثاني: هو رفض هذا الأسلوب في إثارة الأحقاد والعودة إلى التصلب من هنا والتصلب من هناك مما يؤدي حتماً إلى تصادم ثم اندلاع أعمال العنف مرة أخرى والمزيد من إزهاق الأرواح البريئة والتخريب والدمار وفي ذلك الضرر البالغ على اللبنانيين وعلى الفلسطينيين على حد سواء.
نحن نعترف بأن هنالك معضلة قائمة بوجود المسلحين الفلسطينيين على أرض لبنان. بل ونعترف بأن وجود هذا العدد الضخم من الفلسطينيين على أرض لبنان هو معضلة أيضاً. ولكن هذه المعضلة ليست لبنانية فحسب بل هي معضلة للفلسطينيين أيضاً، وإذا اختلفنا على وسائل معالجة هذه المعضلة فنحن لا نختلف على وجودها في الجوهر والأصل. فنحن نريد أن ينزح الفلسطينيون وبأكثر إلحاح منا يريدون أن يتركوا لبنان ويعودوا إلى وطنهم وبيوتهم، ولكن هذا لا يتوقف على اي موقف متصلب من اللبنانيين بل على حل قضية الفلسطينيين حلاً عربياً – دولياً بإعطائهم أبسط حقوقهم التي يعملون في سبيل تحقيقها. وطالما أن هنالك وجوداً فلسطينياً في لبنان وقد نشأت بين أبنائه الثورة المسلحة فلا يمكن لا إنسانياً ولا وطنياً أن ننزع منهم سلاحهم بالكامل ونطلب منهم أن يعيشوا في مخيمات الذل مستكينين راضين مرة أخرى. إذ عندئذ نعود إلى أول الطريق بحيث يتوجب على السلطة في لبنان أن تجعلهم قابلية بالانضباط عاملين على أساسه خاضعين للسلطة الشرعية في لبنان ولكن ليس من المعقول ولا يمكن أن يتحقق ذلك قبل أن تقوم هذه السلطة بمساندة جميع الأرجاء اللبنانية وعلى جميع اللبنانيين وخصوصاً المسلحين منهم الذين أصبح فريق كبير من الشعب اللبناني يضج ظلامة من تصرفاتهم الخارقة لكل القوانين.
*
قلت للرئيس سلام: عندي ملاحظتان، الأولى أنك تحدثت عن المرحلة التي سادت فترة حكمكم وهذا صحيح فقد انضبط الفلسطينيون إلى حد ما وكان هناك تجاوب متبادل وربما كان هذا بسبب وجودكم الشخصي في الحكم ولكنكم في تلك الفترة لم تستطيعوا تنفيذ اتفاقية القاهرة لتركيز العلاقات على أسس ثابتة لا سيما وأن صائب سلام ليس موجوداً بشكل دائم في مركز السلطة؟
 - أجاب الرئيس سلام: أولاً أحب أن أذكر أنني عندما أشير إلى فترة الحكم اللبناني الذهبية خلال الحقبة الاستقلالية بكاملها وذلك بين 1970 و1973 فأنا لا أتبجح لفخر شخصي أدعيه ولكنني أقول إن هيبة الحكم وعدالته كانت سبباً للاستقرار والازدهار وللعلاقة الطيبة مع المقاومة الفلسطينية. أما أننا لم نطبق اتفاق القاهرة فأنا أقول إن التعامل كان على قدر كبير من الحزم من جهة، والثقة المتبادلة من جهة أخرى وخصوصاً ثقة الفلسطينيين بعدالة الحكم وشدة انضباطه بحيث كان يطبق اتفاق القاهرة بحذافيره دون أن نحتاج يوماً للرجوع إلى نصوص ذلك الاتفاق. بل وأقول أكثر من تطبيق اتفاق القاهرة وذلك عندما كانت الضرورة العربية على كل الجبهات تتطلب عدم إعطاء الذريعة لإسرائيل بأي استثارة فقد استجاب الفلسطينيون على مدى أشهر طويلة عديدة لعدم القيام بأي نشاط إطلاقاً على الحدود اللبنانية – الإسرائيلية وهذه كلها من وقائع التاريخ.
 *
الملاحظة الثانية هي ما اعتقده الرئيس سلام بأن التجاوزات وبعض الممارسات الخاطئة هي التي مهدت وسببت الحرب التي وقعت، وقلت للرئيس سلام هل هذا هو واقع أم أن الوجود الفلسطيني بحد ذاته وما يرمز إليه في لبنان كان هو الدافع أو المسبب للمشكلة؟
 - فقال الرئيس سلام: إذا أردنا أن ندخل في التفاصيل فهنالك أسباب كثيرة يأتي في مقدمتها في رأيي أن بعض القادة من هنا وبعض القادة من هناك كانوا يشطون في المزايدات فيزكون النار عند كل حركة كبيرة كانت أم صغيرة. بل وأكثر من هذا فلنذهب إلى الصراحة في الموضوع فنقول إن هذا الأسلوب لم يكن محصوراً بنزعات ورغبات أولئك القادة المشؤومين بل كلنا نعرف أن وراء كل منهم كانت دولة أو دول تدفعهم إلى ذلك لإغراق لبنان في الدماء والخراب وجعله مركز المؤامرة الكبرى على نفسه وعلى العرب. ولا أحب أن أفصل هنا أكثر من ذلك لأنني اليوم أبذل الجهد الصادق والمستمر في سبيل تناسي الأحقاد وفتح القلوب والعودة إلى التآخي بين المسلمين والمسيحيين الذي كاد يفقدهم إياه بعض القادة ممن لم يرع للمسلمين والمسيحيين لا ذمة ولا ديناً فكانت أنانيتهم الشخصية تطغى على المصلحة اللبنانية الصميمة. وإذا أشرت إلى الدول التي كانت تحرض على ذلك فطبعاً لا يصح لي أن ألوم إسرائيل لأن هذا كل ما ينتظر منها، ولكنني، بألم عميق، أقول إن بعض الدول العربية كانت تقوم هي أيضاً بتفجير صراعاتها على الساحة اللبنانية.
 *
قلت للرئيس سلام: على كل هناك مشكلة قائمة وهي أن فريقاً كبيراً من اللبنانيين له موقف رافض من الوجود الفلسطيني ويطالب بإزالة هذا الوجود، على الأقل العسكري منه بنوع خاص ويرفض العودة إلى سياسة اتفاقية القاهرة؟
 - فأجاب: كنت أتمنى أن كون هذا صحيحاً إن موقف معظم المسيحيين هو كموقف معظم المسلمين يطلبون العودة إلى العيش الهانىء المستقر في ظل الأمن والشرعية، وإذا انزلق بعض القادة في إثارة موضوع الفلسطينيين على صعيد الأحقاد والمصادمة بالعنف فإني لآمل أن يدركوا بأن ليس هذا هو السبيل لما ننشده وينشدونه وهؤلاء القادة الذين أشير إليهم الذين وقفوا ولا زالوا يقفون في سبيل ما أدعوا إليه ونبذل الغالي والرخيص من أجل تحقيقه وهو فتح القلوب وتفتيح العقول ومد الأيدي على صعيد الأخوة والمواطنية المشتركة بما ألخصه بشعار التفهم والتفاهم.
 *
وسألت الرئيس سلام: ألا تعتقدون مع من يعتقد من مسؤولين وسياسيين بأن أي وفاق بين اللبنانيين على العودة للعيش المشترك لا يسبقه أو يرافقه موقف موحد من الوجود الفلسطيني هو وفاق غير ثابت وعرضة للانهيار في أية لحظة؟
 - فرد الرئيس سلام: الوفاق اللبناني ليس نصوصاً مكتوبة ولا يكون بالفرض من أية جهة. ولا أن يجبر فريق من اللبنانيين على إعلان ولائه بالقوة أو يجبر الفريق الآخر على إعلان عروبته بالقوة بل الوفاق الصحيح هو ما يقوم على ما أشرت إليه من تفهم صحيح من كل فريق لأخيه الفريق الآخر مما يوصل إلى التفاهم.
 *
وقلت للرئيس سلام: ولكن مأخذ الفريق الآخر هو أن المسلمين لا يستطيعون اتخاذ موقف صريح وواضح من الوجود الفلسطيني؟
 - فقال: أبداً، نحن دائماً ننادي بتنظيم الوجود الفلسطيني وضبط كل شذوذ من قبل المسلحين فيه. ولكن هنالك من يعرقل استتباب الأمر لهذه الشرعية فلا تتمكن لا من ضبط أمور اللبنانيين ولا بالطبع من ضبط أمور الفلسطينيين، وأعود فأقول لو تفاهم الفريقان في لبنان، المسلم والمسيحي، لتعززت لشرعية في لبنان وانضبط المواطن اللبناني ولتمكنت الشرعية من وضع العلاقة مع الفلسطينيين على أفضل الأسس الممكنة في الظروف القائمة.
 *
وأخيراً كان لا بد من سؤال من وحي المعارك التي كانت دائرة على جبهة الشياح – عين الرمانة وعن الدافع والمغزى منها؟
 - فقال الرئيس سلام: إسرائيل، وإسرائيل مرة أخرى. مع الاعتراف بأن ما رافق المحنة من ملابسات لا زال يرافقها حتى اليوم من إهمال عربي بل ومن تدخل عربي لتفاقم المصير.
إن لبنان اليوم مع ما وقع فيه لا يمكن أن يستعيد الحكم شرعيته فيه إلا بقوة رادعة خارجية وما يقوم اليوم من قتال عنيف في لبنان يجب في نظري أن ينتهي بسيطرة قوة الردع العربية وهي قوة الشرعية كما اعترف  بذلك الجميع وذلك على جميع من يرفع السلاح في وجه السلطة.(انتهى)
ـــــــــــــــــــــــــــــ

<< Prev - Next >>

Last Updated (Thursday, 10 March 2011 13:01)

 
القائمة الرئيسية
  • الرئيسية
  • الأرشيف
  • عن الوكالة
  • عباس بدر الدين
  • قالوا في عباس بدر الدين
  • الصحف اليومية
  • راسلنا
Banner
Banner
حول ملف الإخفاء
  • س س
  • العقيد القذافي
    • ليبيا القذافي
  • لكلمته صولة
  • مطالبات
  • مطالبات - تابع
  • التوطين
  • د.مسيكة :هذه هي وقائع التحقيق
  • التحقيق الايطالي في جريمة الاخفاء
  • من المؤكد
  • قانون انشاء المجلس الاسلامي الشيعي الاعلى ونظامه الداخلي وملاك موظفيه العام
  • موسى الصدر لماذا هو؟
  • معلومات عن خطف الإمام وصحبه
Banner
للعلم والمعرفة
  • العلمنة
  • الوفاق الذي عاش 30 عاماً
  • مصير لبنان في مشاريع
  • تاريخ قوات حفظ السلام في لبنان
  • الخريطة الاميركية للشرق الاوسط
  • الاستراتيجية الاميركية في المنطقة
  • الثورة الإسلامية الإيرانية
  • طائرة الموت الايرانية
Banner
Banner
Banner
Banner

Copyright © 2010 LNA.
All Rights Reserved.

Designed by MS Graphics.