الرئيسية / News / الشرارة / الشرارة:قصة الحرب

الشرارة:قصة الحرب

alt

 

ميزان القوى العربي – الاسرائيلي عشية حرب تشرين الاول (اكتوبر)1973

 alt

 الرئيس السادات يحيط به الفريق اول أحمد اسماعيل(على اليمين)

والفريق سعدالدين الشاذلي،رئيس أركانحرب القوات المسلحة(على اليسار)

يستعرضون الخطط العسكرية.

 

alt

29 آب 1973 تاريخ هام من تواريخ الحرب يوم اجتمع الرئيسان السادات والاسد

في دمشق وبحثا مرة تلو الاخرى خطتهما السرية.

 

 alt

شملت خطة “الشرارة”حملة دبلوماسية قام بها الرئيس السادات

وكان من ضمنها زيارته في ايلول الماضي،للعاهل السعودي الذي كان لقراره،

فيما بعد،استخدام النفط في سبيل المعركة،اثرا هاما.

 

قصة الحرب
“خطة الشرارة”
والقرار بالحرب الخاطفة

لعله من سخرية القدر أن تستعمل ضد إسرائيل خطة عسكرية تحمل اسم “الشرارة” وتقوم على مبدأ الشرارة. فإسرائيل التي آمنت بفكرة الحرب الصاعقة الهجومية أساساً وحيداً لبقائها وقوتها وأقامت نظام قواتها وأسلوب عملها وفق هذه العقيدة العسكرية وجدت نفسها فجأة أمام هجوم عربي قام، بدوره، على فكرة الحرب الخاطفة الصاعقة المستندة إلى سلسلة عمليات عسكرية باهرة وتحمل اسماً رمزياً هو “الشرارة”.
ولكن لماذا اتبعت القيادة، التي خططت للحرب، أسلوب الحرب الخاطفة؟ وقبلاً ما هي السمات المميزة للحرب الأخيرة التي خاضتها مصر وسوريا، بمشاركة دول عربية شقيقة، ضد إسرائيل.
كانت الفكرة الأساسية وراء قرار مصر وسوريا بشن حرب على إسرائيل قهر الإرادة الإسرائيلية بالقوة وإجبارها على التخلي عن موقفها المتعنت تجاه الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة عام 1967 ونيل الشعب الفلسطيني لحقوقه المشروعة. وهي نفس الفكرة التي حكمت الاستراتيجية والدبلوماسية العربية منذ حرب 1967 حتى يوم 6 تشرين الأول 1973 والتي استخدم العرب فيها جميع الأساليب والضغوط السياسية والدبلوماسية بالإضافة إلى الضغط العسكري المحدود (حرب الاستنزاف) حتى أوصلهم التعنت الإسرائيلي إلى طريق مسدود أجبرهم على اللجوء إلى وسيلة أخرى من وسائل السياسة وهي العنف المسلح أي الحرب.
بقلم المقدم الهيثم الأيوبي

وكان استخدام الإستراتيجية الهجومية الوسيلة الوحيدة لتحقيق هذه الأغراض السياسية. ولذا كان الطابع الهجومي السمة المميزة للعمليات العسكرية العربية، كما وأن التكتيك السائد كان الهجوم بمختلف أشكاله، مع اعتماد تكتيكات الحرب الخاطفة (الخرق، والتطويق، والتغلغل بالعمق، واستخدام المظليين في العمق التكتيكي) على الجبهة السورية، وتكتيكات الهجوم الدفاعي (القصف، والتقدم بحجم هجومي، والتحصن، وجذب العدو لضربه مع البقاء تحت مظلة الدفاع الأرضي ضد الطائرات) على الجبهة المصرية.
والسمة الثانية المميزة للمبادرة العربية الأخيرة هي أن القوات المصرية والسورية استخدمت في مراحل الدفاع الديناميكي أي الجذب والضرب، مع استخدام الهجمات المعاكسة بالنار والحركة والصدمة. وهذه أساليب دفاعية تستخدم من قبل الجانب العربي لأول مرة على نطاق واسع وتم بذلك التخلص من أساليب الدفاع الثابت التي كانت تطبق طوال فترة 1949 – 1973. ومن أهم سمات العمليات التي تمت على الجبهتين اضطرار العدو للقتال على الجبهتين في الزمان والمكان اللذين حددهما الجانب العربي، ووفق الأسلوب القتالي الذي اختاره هذا الجانب. وهذه أول مرة يضطر العدو فيها إلى التخلي عن أساليبه وطرائقه، ويعمل في ظروف غير ملائمة له. والمعروف أن الجيش الإسرائيلي كان هو الذي يحدد مكان الضربة وزمانها، ويجمع المعلومات الكاملة عنها، ويعد القوى والوسائط اللازمة لها، ويضمن التفوق التكتيكي والعملياتي ضمن إطار تفوق استراتيجي مسبق، ويقوم بالعمليات التي يرغب فيها وبالأسلوب الذي يناسبه وهو ضامن لكل شروط النجاح. وما أن يتحقق نجاحه التكتيكي أو العملياتي في ظل التفوق الاستراتيجي المسبق حتى يوظف هذا النجاح لخدمة أغراض دعائية (معنوية) وسياسية محاولاً مبادلة النصر العسكري بربح سياسي وإحاطة قواته المسلحة بهالة من البطولة الأسطورية. ولقد نجح العدو في تطبيق هذه الخطة طوال الخمس وعشرين سنة الماضية، وكانت القوات المسلحة العربية تجد نفسها في كل مرة مضطرة إلى القتال في ظروف تكتيكية استراتيجية غير ملائمة، فكانت تخسر في الاشتباكات معارك خاسرة سلفاً، وكانت النجاحات التكتيكية التي تنتزعها أحياناً بكل صعوبة تضيع وسط الخلل الاستراتيجي العام. ذلك كله أدى إلى ارتفاع مستوى الردع الذي تملكه القوات المسلحة المعادية وازدياد حرية عملها مع تقليص هامش حرية عمل القوات المسلحة العربية بشكل ملحوظ.
وفي 6 تشرين الأول 1973 تبدلت عناصر المعادلة بشكل جذري، وتمثل التبدل بعدة ظواهر أهمها:
1- انخفاض مستوى الردع الإسرائيلي إلى الحد الذي حول التوازن المستقر إلى توازن قلق.
2-  أخذت القوات العربية المبادرة وتابعت ضغطها بشكل مستمر أدى إلى تناقص هامش حرية عمل العدو. وهذا نجاح كبير على مستوى حوار الإرادات.
3-  كان الوضع الاستراتيجي العام وميزان القوات المادية والمعنوية مائلين لصالح القوات العربية الأمر الذي أدى إلى تخفيف آثار حالات الفشل المحلية وتراكم حالات النجاح وتوظيفها لخدمة استراتيجية ناجحة.
وباختصار كانت حرب الشرارة. ولكن لماذا كان ضرورياً اتباع هذا النهج.
من المعروف أن كل قيادة تلجأ، عندما تضع قراراتها السياسية وترسم خططها العسكرية، إلى تقييم الخصائص والمعطيات المحيطة وتحلل الوضع السياسي والعقيدة العسكرية للخصم. فما هي النتائج التي يتوصل إليها المرء عندما يقوم بمثل هذه التحليلات:
1- أن أمن إسرائيل مبني على حدود قوية يسهل الدفاع عنها (الجولان، نهر الأردن، قناة السويس وخط بارليف) وهذا ما سيردع العرب عن القيام بأي هجوم. ولقد صرح موشي دايان بعد حرب 1967: “أن هدف إسرائيل هو تحويل خطوط وقف إطلاق النار إلى سلام دائم مع العالم العربي. وللوصول إلى ذلك فإن علينا حماية حدودنا الجديدة بطريقة تطرد أدنى أمل قد يعلق في أذهان أعدائنا بقدرتهم على طردنا بقوة السلاح”.
2-  ان احتلال الضفة الغربية والجولان أبعد القوات العربية عن المناطق الحيوية والسكانية في إسرائيل، وزاد عمق وعرض إسرائيل الإستراتيجيين بشكل يعطي القيادة العسكرية هامشاً عريضاً للمناورة في الزمان والمكان، ويسمح بتعبئة الاحتياط في ظروف ملائمة. ولقد أشار المعلق العسكري زئيف شيف إلى ذلك عندما كتب في هآرتس (22/12/71): تخلصت إسرائيل بفضل الوضع الجغرافي الاستراتيجي الحالي من مخاوفها القديمة وهي: أنها لم تكن البادئة بإطلاق النار فمن المحتمل أن تهزم أو أن تضطر لدفع ثمن فادح من الضحايا”.
3-  إمكان تحقيق الردع الإيجابي عن طريق خلق قوات مسلحة قوية (طيران ومدرعات) متفوقة على القوات العربية بشكل يمنع هذه القوات من التفكير بشن الحرب، ويدمرها في حالة خرق اتفاقات وقف القتال. ويؤكد الجنرال ييغال آلون في كتابه “الستار الرملي” هذه الفكرة عندما يقول: “إن الأمل الوحيد بردع العدو حتى لا يفرض حرباً على إسرائيل يرتبط بقوة جيش الدفاع وبطريقة استخدامها”. وعندما تحدث آلون في كتابه “إنشاء وتكوين الجيش الإسرائيلي” عن تشكيل القوات العسكرية الإسرائيلية بعد حرب 1967 قال: “إن هدف هذه القوات الصريح والمعلن هو ردع العدو عن بدء حرب جديدة. وإذا قامت الحرب رغم ذلك نضمن النصر الإسرائيلي بأكبر قدر من السرعة والكفاءة مع أقل قدر من الخسائر”.
4-  إن ضخامة المعدات العسكرية الحديثة التي حصل عليها الجيش الإسرائيلي من الولايات المتحدة ستضمن التفوق وستعدل النقص البشري عن طريق زيادة الكثافة النارية. ولقد ذكر إسحاق رابين سفير إسرائيل في واشنطن “أن باستطاعة إسرائيل أن تدافع عن نفسها بنفسها ضد قوى العالم العربي مجتمعة لأية فترة ممكنة – خمساً أو عشرين أو خمسين سنة – ما دمنا لا نحرم من المعدات اللازمة لدفاعنا”.
5-  إيمان الإسرائيليين بمهارة استخباراتهم التي لا تخطىء، وقدرتها على تقديم كافة المعلومات اللازمة في الوقت المناسب لاتخاذ قرار ملائم وصحيح. ومن المؤكد أن تعاون الاستخبارات الإسرائيلية مع استخبارات الدول الإمبريالية وخاصة الولايات المتحدة بكل ما تملكه من تقدم علمي وأجهزة متطورة وامتدادات اقتصادية وثقافية واجتماعية في أنحاء مختلفة من العالم يقدم للاستخبارات الإسرائيلية ظروفاً مثالية للعمل دون التعرض المباشر للكشف والتدمير. ولقد كانت دقة المعلومات التي تحصل عليها إسرائيل بشكل مباشر أو غير مباشر تضمن لها تنفيذ عملياتها المحدودة أو الكبيرة بشكل مذهل يرفع مصداقية التهديدات الإسرائيلية ويحطم معنويات المواطن العربي الذي أصبح يعتقد أن العدو يعرف عن بلاده وقواته المسلحة الشيء الكثير إن لم يكن كل شيء. ولم يكن اعتماد إسرائيل على استخباراتها هجومياً فحسب، بل كان دفاعياً أيضاً، إذ كانت القيادة في تل أبيب تعتبر عملاء استخباراتها الخط الدفاعي الأول القادر عن إنذار القوات المسلحة بشكل يمنع تعرضها لأية مفاجأة ويعطيها هامش مناورة واسع في الزمان.
6-  جهل تل أبيب بالتحول المعنوي الكبير الذي أصاب معنويات القوات المصرية والسورية، وتخلص ضباط وجنود هذه القوات من تأثيرات الردع السلبية التي نجمت عن حرب 1967. واعتقاد الإسرائيليين بأن الجيش الذي هزم ثلاث مرات في ثلاث حروب متعاقبة، واهتزت قناعاته بنفسه وقياداته بعد حرب 1967 هو عبارة عن جيش عاجز عن الانتصار، ولا يمكن أن ينتقل من الهزيمة إلى الهجوم، وأن أحسن ما يمكنه القيام به هو الدفاع بكفاءة متوسطة إذا فرض عليه القتال.
7-  اعتقاد الإسرائيليين بأن خروج السوفيات من مصر قد أضعف القوات المصرية المسلحة، وخفض كفاءة شبكة الدفاع الجوي بشكل خطير جعلها عاجزة عن حماية أجواء البلاد. وأن العرب لن يبدأوا القتال في ظل علاقاتهم المتوترة مع الاتحاد السوفياتي، وطالما أن الجبهة الشرقية لم تنشأ بعد، وطالما أن الجيش العراقي لم يتحرك من ثكناته في داخل العراق متوجهاً إلى مسرح العمليات الشمالي أو الشرقي، وطالما أن الدول العربية البترولية لم تحصل بعد على أسلحة غربية (صواريخ، ودبابات، وطائرات فانتوم أو ميراج) لحساب مصر بغية الاستعاضة عن السلاح الشرقي – كلياً أو جزئياً – بسلاح غربي.
8-  الخطأ في تفسير النشاط السياسي – الدبلوماسي العربي الذي دام ست سنوات، والاعتقاد بأن العرب يراهنون على هذا النشاط فقط – بعد فشل حرب الاستنزاف – بغية الوصول إلى حل سلمي يشمل الكثير من التنازلات الإقليمية. وعدم قدرة القادة الإسرائيليين على فهم هذا النشاط كجزء من حوار الإرادات، وأسلوب من أساليب كسب المناورة السياسية الخارجية اللازمة لكل عمل عسكري ناجح.
9-  الاعتقاد بأن أي عمل عسكري عربي جماعي أمر غير ممكن نظراً لاستفحال الخلافات القطرية العربية. وتجاهل حجم الحقد القومي الذي يملأ صدور العرب ضد الدولة المعتدية المزروعة في قلب وطنهم والمهددة لتقدمهم ووحدتهم وازدهارهم، والعاملة على إذلالهم المستمر بغية تركيعهم. وعدم  تقدير إمكانية تناسي التناقض الثانوي في سبيل مجابهة التناقض الرئيسي مع العدو القومي.
10- الاعتقاد بأن أي عمل عسكري عربي جماعي يحتاج في حال إمكان وقوعه (وهو بنظر الإسرائيليية حالة قليلة الاحتمال) لاجتماعات مطولة يعقدها وزراء الدفاع ثم وزراء الخارجية تعقبها اجتماعات الرؤساء والملوك لرسم الخطة وتوزيع الأدوار، الأمر الذي يتطلب مناقشات طويلة تعطي الحكومة الإسرائيلية هامشاً زمنياً واسعاً للاستعداد والرد بضربة إجهاضية مبكرة.
11- عدم فهم ساسة تل أبيب لحجم الدعم الجماهيري الذي يحصل عليه أي زعيم عربي يشن الحرب ضد إسرائيل، وعدم تقدير التلاحم الداخلي الذي يمكن أن تسببه مثل هذه الحرب داخل كل قطر. واعتقادهم الخاطىء بأن أوضاع مصر الداخلية، والخلافات الفكرية التي أدت إلى سلسلة أحداث داخلية وسوء الحالة الاقتصادية وغيرها ستقيد حركة الرئيس أنور السادات وتجبره على الاهتمام بتثبيت الموقع الداخلي وعدم المغامرة بما تعتبره إسرائيل حرباً خاسرة سلفاً، وتصورها بأن الخلافات الحزبية في سورية قد فككت وحدتها الداخلية وجعلت قواتها المسلحة عاجزة عن القيام بأي عمل حربي جدي واسع النطاق. ولقد ظهر خطأ فهم الأوضاع العربية الداخلية في أحاديث الكثيرين من مفكري إسرائيل وسياسييها بما في ذلك أحاديث وكتابات خبرائها في الشؤون العربية.ولا أدل على ذلك من قول دوفانيون معلق الإذاعة الإسرائيلية للشؤون العربية قبل اندلاع الحرب بثلاثة أيام رداً على سؤال يتعلق بالحشود السورية على الحدود “نحن نعرف منذ ثلاثة أو أربعة أيام أنه تم نقل القوات السورية التي كانت مرابطة على الحدود الأردنية – السورية إلى الحدود السورية – الإسرائيلية. وهذا يعود إلى المشكلات الداخلية. وقد تكون هناك أسباب أخرى. أما بالنسبة للقوات السورية فمن المعلوم أن محاولات جرت للإحاطة بالرئيس الأسد. كما أن هناك سوء تفاهم بين المخربين (الفدائيين) وخلافات حزبية داخلية. وحل هذه المشكلات كان ولا يزال هو محاولة خلق جو من التوتر على الحدود”.
12-  الغرور الكامل، والغطرسة والثقة بالنفس بشكل مفرط. واعتماد سياسة القوة أو التلويح بالقوة لكسر الإرادة العربية دون السعي إلى إيجاد وسيلة لتفهم دوافع هذه الإرادة واحتواء تطلعاتها. وينبع هذا كله من الطبيعة التوسعية العنصرية الاستعلائية للدولة الصهيونية ومقومات وجودها، وارتباط هذا الوجود بإزالة العرب لا بالتفاهم معهم. ويذكر الدكتوران شلومو أهروتسون ودان هورفيتش من دائرة العلوم السياسية في الجامعة العبرية أهمية العنف وعمليات الإرهاب ضد العرب ويريان أنها “شجعت تنمية الوفاق الاجتماعي العام في إسرائيل، وطورت التماثل مع الدولة، وساعدت على التماسك الاجتماعي”. ولقد تنامى الغرور لدى الإسرائيليين بعد حرب 1967 إلى درجة مرضية جعلتهم يعتقدون فعلاً بأنهم عنصر متفوق وأسطوري وفوق طبيعة البشر. وأن جيشهم قادر على فعل المعجزات ويكفي هنا أن نذكر تصريح موشي دايان أمام المؤتمر العالمي لمهاجري (1972) الذي قال فيه: “إن دولة إسرائيل اليوم هي أقوى دول المنطقة، وأن قوتها العسكرية متمركزة ومتحركة وقادرة على حماية الدولة”. وقول غولدا مائير في احتفال يوم سلاح المدرعات (1972): “إن أعداءنا يحافظون على وقف إطلاق النار ليس من حبهم للسلام بل من خوفهم من الدبابات والجنود والطيارين الإسرائيليين”.
13- الاعتماد المطلق على قدرة الطيران الإسرائيلي على صد كل هجوم، وتدمير المهاجمين أو إبطاء تقدمهم على الأقل ريثما تتدخل القوات البرية الضاربة في المعركة وتحسم القتال وتطارد القوات العربية المهاجمة وراء الحدود. ولقد اعتقد الإسرائيليون أن هذا السلاح الذي يضم عدداً صغيراً من الرجال وقدرة نارية هائلة قادر على الردع الكامل، أو حسم المعركة ونقلها إلى أرض عدوهم إذا ما انخفض مستوى الردع لسبب من الأسباب. ففي عام 1968 قال الجنرال حاييم بارليف الذي كان رئيساً لأركان جيش العدو “أن الأفضلية القصوى يجب أن تعطى لعناصر قواتنا التي تمتاز بقيمة ردعية والتي تنتسب للقوات الرادعة. تلك القوات قادرة على نقل الحرب إلى إقليم العدو وقادرة على دحر العدو أينما كان. هذا موقف ثابت لن يتغير. إن القوات التي تحتل المراكز الأولى في سلم الأولويات هي السلاح الجوي، والقوات المدرعة، والقوات المحمولة جواً. أما عناصر قواتنا المسلحة الأخرى، فهي إلى حد كبير، عناصر مساعدة”. وأكد الجنرال مردخاي هود قائد سلاح الطيران السابق هذا القول في عام 1972 عندما تحدث عن وقف إطلاق النار على الجبهة المصرية بقوله: “لقد تمت المحافظة على الهدوء النسبي المستمر منذ سنتين بفضل قوة الردع التي يمتلكها جيش الدفاع. إن قوة الردع لدى جيش الدفاع تنبع من لياقة هذا الجيش واستعداده وقوة سلاح الطيران”. ولقد ذكر المعلق العسكري الإسرائيلي الجنرال حايم هرتسوغ بعد معركة 13 أيلول 1973 الجوية فوق الشواطىء السورية بأن “أهم مغزى لحادث الأمس هو أنه ثبت مرة أخرى أن قوة السلاح الجوي هي من أهم الأمور التي تردع العرب عن استئناف القتال وخرق اتفاقات وقف القتال”.
وبالواقع فإننا نجد أن إسرائيل قد بنت نظرية أمنية انطلاقاً من هذه التطورات، كما مارست سياستها فعلاً وفق هذه النظرية. فكانت تشن حملات عسكرية على مراكز التجمع الفلسطينية وقرى الحدود. وتنتهك حرمة الأجواء وتعتدي على الدول العربية المجاورة لها، وتهدد باحتلال مزيد من الأرض العربية، وتهدد بتدمير مدن الدول العربية التي تسمح بتدريب قوات المقاومة الفلسطينية أو إقامتها على أراضيها أو تسمح لها بالتسلل عبر حدودها. ولم يكن التهديد موجهاً إلى الدول العربية المجاورة فحسب بل وصل إلى حد التهديد بضرب “المصالح الحيوية العربية” (جيروزاليم بوست) وتدمير منابع البترول في الجزيرة العربية “لوقف مساعدة الدول البترولية لحركة المقاومة” والإعلان عن ضرورة مهاجمة ليبيا “حتى لا تشعر القيادة الليبية بأنه لا يمكن إصابتها، وبأنها خارج نطاق الهجوم” (الجنرال يشعياهو جافيش). بالإضافة إلى التهديد باحتلال منابع النفط والوصول إلى أية نقطة من الوطن العربي. وأخيراً وليس آخراً رفضها الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة.
من هنا ولدت الحاجة إلى القيام بعمل عسكري يمتاز بطبيعة معينة بحيث ينال من إسرائيل حيث الضربة تكون موجعة أكثر وبصورة حاسمة وسريعة.
وتختلف الروايات عن الزمن الذي اتخذ فيه القرار الجدي بالسير في تنفيذ عمل عسكري من هذا النوع. فهناك روايات تقول أن ساعة الصفر كانت محددة في 15 أيار الماضي.. ولكنها تأجلت وتقرر البدء في حملة دبلوماسية عالمية، وسياسة تضامن عربية.. أما قرار العبور فقد اتخذه الرئيس السادات منذ اللحظة التي انتخب فيها رئيساً للجمهورية، وكان العبور هو محور جميع تصرفاته سواء داخلياً أو عربياً أو عالمياً.. ومعروف أن محمد فوزي كان يعارض العبور، ويعتبره عملية انتحارية بينما كان محمد صادق رئيس الأركان وقتها يردد دائماً أن أمله هو عبور القناة ثم أداء فريضة الحج وإنهاء حياته.. ولهذا اختاره الرئيس وزيراً للحربية.. بعدما حصل منه على موافقة كتابية على إمكان العبور ولكن موقف صادق تغير بعدما أصبح وزيراً للحربية وفي الاجتماع المشهور الذي عقده الرئيس السادات مع قيادة الجيش، عارض صادق وقائد البحرية في العبور، وقال صادق، إن الولايات المتحدة ستبادر إلى دعم إسرائيل، وبالتالي سنصبح تحت رحمة الدعم الروسي.. وهنا انفجر السادات، في واحدة، من غضباته المشهورة، وواجه الفريق صادق بتقريره السابق، وقال “أنا أطالبك بقهر إسرائيل..” أما أميركا وروسيا فتلك مسؤولية القيادة السياسية..
وعندما تولى الفريق أحمد إسماعيل وزارة الحربية كلفه الرئيس “بالمهمة” والنظام المتبع هو أن يطلب رئيس الدولة أي القيادة السياسية من قيادة الجيش “مهمة” معينة.. هي مثلاً عبور القناة وتحرير سيناء، أو الدفاع عن خط بارليف ومنع العبور المصري، فيطلب القائد الذي يتولى  التنفيذ تقارير هيئة العمليات، وأول تقرير بالطبع هو تقرير المخابرات، عن حالة قواتنا وحالة قوات العدو وتجري مقارنة وتقدير موقف ويرد وزير الدفاع، أو القائد المسؤول بأن في وسعه القيام بالمهمة، ولكنه يحتاج إلى إجراءات وإمدادات معينة.. فيزود بما يريد ويطلب منه وضع مشروع، والمدة التي يحتاجها للعلم قبل ساعة الصفر..
وتقول مصادر أخرى أن القرار اتخذ في الأسبوع الأول من شهر أيلول الماضي، حين وقع الرئيس أنور السادات على أوامر معينة تتعلق بتنفيذ الخطة، وبإخراج جسور العبور التي استخدمت في العملية من المخازن التابعة للجيش المصري.
وبعد الوقوف على رأي السادات، رسمت القيادة العسكرية المصرية خطة “الشرارة”، وتتألف هذه القيادة من: الفريق الأول أحمد إسماعيل نائب القائد الأعلى ووزير الدفاع، اللواء سعد الدين الشاذلي رئيس الأركان، اللواء الجمصي نائب رئيس الأركان ومدير المخابرات الحربية.
بالإضافة إلى هؤلاء اشتركت في إعداد الخطة قيادة هيئة الأركان، وفيما عدا هؤلاء من قادة الجيش المصري فلم يكن أحد على علم بالخطة، التي قرأ الرئيس السادات الفاتحة بعد التوقيع عليها.
اتخذت إذن القيادة في مصر في أوائل أيلول القرارات بالعد المعاكس إلى أن انتهت بإخراج الجسور من المخازن وإرسالها إلى الجبهة يوم الجمعة، ويقال أنه قد جرت خلال عام 1973 وحده خمسة “مشاريع” (العملية العسكرية يطلق عليها مشروع) للعبور واحتلال خط بارليف، الذي أقيمت له نماذج مماثلة داخل الأراضي المصرية.. وكانت الطائرات تحمل الكوماندوس ويتم عبور مانع مائي في عرض قناة السويس.. ويوم السبت أبلغ الكوماندوس وهم في الجو أنهم سيهبطون هذه المرة على أرض سيناء.. ويوم الخميس أعلنت التعبئة العامة، واستدعي الاحتياطي، ورفعت حالة الطوارىء إلى الدرجة القصوى، وصباح السبت أعلن خفضها إلى 50 بالمئة وعندما صدر الأمر بردع العدوان الإسرائيلي، استدعي الكوماندوس لتنفيذ المشروع السادس.. وكانت مفاجأة للمهاجمين والمدافعين مع فارق أن جنودنا كانوا يتدربون على هذه اللحظة ثلاث سنوات، ويتحرقون شوقاً إليها ست سنوات تعادل ستة قرون كاملة!
وفكرة دك الساتر الرملي الذي كان يعترض عملية العبور المصري لقناة السويس، صاحبها هو اللواء جمال محمد علي قائد سلاح المهندسين.. كان الساتر الرملي هو أحد العوائق الأساسية التي تحمي المواقع الإسرائيلية من الهجوم المصري.. وهو الساتر المكون من رمال تطهير القناة، على طول الشاطىء الشرقي، وقد قام الإسرائيليون بتعليته، وتدعيم الأجزاء الضعيفة منه، حتى أصبح بمثابة حائط ارتفاعه عشرون متراً يحجب المواقع الإسرائيلية، ولأنه من رمال فهو يشل حركة المدرعات لأن محاولة اختراقه تعني الدفن تحت الرمال.. ومنذ عام تقريباً بدأت التجارب لاختراق هذا الحاجز بالماء وفي نفس الوقت كانت تجري التجارب على تطوير جسور العبور، حتى استطاعت أن تحقق نتائج مذهلة فقد تم تركيب سبعة جسور في ست ساعات، أي أن الجسر الواحد استغرقت إقامته أقل من ساعة، وهو رقم قياسي، لا يكاد يصدقه العسكريون.. فقد توصل  المهندسون إلى تركيب 4 ماكينات مياه في “ضلفة” حديدية مثبتة في آخر الكوبري وترتكز على الساتر الرملي ثم تخرج من كل ماكينة ثلاثة خراطيم مياه قوتها 1500 حصان وتكفي المياه المندفعة منها لقتل أي كائن حي، بل والإطاحة بدبابة سنتوريون.. ومع انهيار الرمال تميل الضلفة المثبتة في نهاية الكوبري حتى تصبح امتداداً له على الرمال فتعبر عليها المدرعات…
وتقول المصادر العسكرية المصرية أن العدو الإسرائيلي قد اكتشف قبل يوم واحد من بدء القتال وجود جسور مصرية مجهزة لعبور قناة السويس، ولكن الغرور الإسرائيلي لم يحمل ضباط المخابرات على الاعتقاد بأن القوات المصرية ستقدم بالفعل على عبور القناة أو على اتخاذ قرار بالحرب.
ومن المؤكد أن المصادر الأميركية والإسرائيلية، لاحظت بفضل وسائط التجسس المتطورة (طائرات تجسس، أقمار صناعية) حركة القوات المصرية والسورية باتجاه خطوط وقف القتال، وكشفت التحشدات العربية التي تمت في مطلع شهر تشرين الأول كرد على تهديدات الإسرائيليين واستعدادهم للقيام بضربة محدودة ضد سورية. ولقد كشف وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر هذه الحقيقة في المؤتمر الصحفي الذي عقده في 14 تشرين الأول وأعلن فيه بأن حكومته كانت على علم بالحشود العسكرية المصرية والسورية على خطوط الجبهتين. وأن أجهزة الاستخبارات الأميركية والإسرائيلية اعتبرتها جزءاً من مناورات الخريف التي تقوم بها القوات المعنية عادة. وأعلن الوزير الأميركي أيضاً أن أجهزة الاستخبارات الأميركية والإسرائيلية قدمت خلال الأسبوع الذي سبق اندلاع القتال ثلاثة تقارير مفصلة أجمعت كلها على استبعاد الحرب كلياً. الأمر الذي يعني أن سبب المفاجأة الاستراتيجية التي تعرض لها العدو لم يأت من انعدام المعلومات، بل جاء من عدم القدرة على تحليل هذه المعلومات، وخطأ الاستنتاجات التي خرجت بها الأجهزة المختصة بعد أن توفرت لها كافة العوامل اللازمة للاستنتاج الصحيح باستثناء العامل الذاتي. ففي نهار الإثنين أول تشرين الأول كانت البرقيات والتقارير والتحليلات تتكدس على مكتب الجنرال ايلي زعيرا، رئيس أجهزة الاستخبارات للجيش الإسرائيلي (أمان). وكانت متطابقة تماماً من حيث أن القوات المصرية والسورية هي في حالة تأهب قصوى. وأن حكومة دمشق استدعت احتياطيين كثيرين، وأن ثمة دلائل كثيرة تسمح بالاعتقاد أن هجوماً عربياً ممكن في وقت قريب. من جهة أخرى، كانت للأميركيين الاستنتاجات نفسها.
على أن ذلك كان حالة التأهب الجدية الخامسة في سنتين. وهز دايان كتفيه وأبلغ واشنطن أن لا مبرر للقلق.
وفي نهار الخميس 4 تشرين الأول طلب الأميركيون، وهم بالغو القلق، من تل أبيب تقييماً جديداً للوضع. وكان الجواب نفسه أنه لا مبرر للافتراض أن في نية العرب فعلاً الانتقال إلى الهجوم.
نهار الجمعة 5 تشرين الأول تركزت تقارير عملاء أجهزة استخبارات الجيش الإسرائيلي والاستطلاعات الجوية والاستماع اللاسلكي في الاتجاه عينه وهو أن هجوماً سورياً – مصرياً واسع النطاق وشيك الوقوع.
في ذلك اليوم الواقع فيه 5 تشرين الأول حدث ما لا يصدق. على رغم الدلائل الدقيقة والمتطابقة، التي قدمها جهاز استخبارات أثبت جدارته، لم يتحرك أحد، ولم يحمل أحد فعلاً التهديد على محمل الجد. وكل ما حدث أن حالة التأهب من الدرجة الثالثة أعلنت في نهاية بعد الظهر. واستدعي عدد من الطيارين وجنود الدبابات الاحتياطيين. لكن ذلك كان بعيداً عن التعبئة العامة. ولم تكن البلاد على علم بشيء.
السبت 6 تشرين الأول: منذ الفجر لم يعد التغاضي ممكناً. كانت فرق مدرعات سورية ومصرية كاملة تتجه نحو خطوط وقف إطلاق النار، في حين كان النشاط غير عادي في المطارات العدوة. واجتمع مجلس الوزراء الإسرائيلي برئاسة السيدة مئير، التي عادت قبل يوم من فيينا، في حين كانت الإذاعة الإسرائيلية، التي لا يسمعها أحد في يوم الغفران هذا، تبث رسائل بالشيفرة: “قدر اللحم”… كان ذلك يعني التأهب من الدرجة الأولى والتعبئة العامة. وفرغت المعابد التي كانت مكتظة منذ الصباح. وترك الرجال “مشالح” صلاتهم للالتحاق بوحداتهم بالسيارات والتاكسيات والأوتوبيسات المصادرة. لم يكن أحد يعرف ما يحدث بالضبط، لكن كل واحد كان يعرف أن الساعة خطيرة.
على خط بارليف، على ضفة قناة السويس، وفي مواقع الجولان أعلنت حالة التأهب القصوى منذ انبلاج الفجر. إلا أن الجنود ما كانوا يحملونها على محمل الجد. في مواجهتهم كان كل شيء هادئاً. ظنوا أن الأمر مجرد تدريب في ذلك اليوم – يوم الغفران – الذي تنشل فيه البلاد عملياً. وعلى ضفة القناة، كانت إحدى أفضل الوحدات المدرعة النظامية المزودة بدبابات سنتوريون قد تحركت من أربعة أيام نحو النقب لإجراء مناورات في منطقة بير سبع. وكان احتياطيو اللواء 116، الذين حلوا محلها، وأكثرهم من مدينة القدس، بالغي السخط.
عند الظهر، فقد الانضباط في معظم المواقع، كان واضحاً أن المصريين لن يهاجموا في وضح النهار. وبقي المراقبون في مراكزهم. لكن جنوداً كثيرين كانوا يكتبون إلى عائلاتهم أو يغسلون ثيابهم. وثمة آخرون، كما في موقع دوره، جنوب القنطرة، بدأوا مباراة في كرة القدم.
في الثانية تماماً ظهرت أربع طائرات ميغ – 21 على علو مخفوض فوق خط الأشجار الذي يمتد على الضفة الغربية للممر المائي. وفي اللحظة عينها أطلقت المدفعية المصرية. واشتعلت الجبهة على طول 120 كيلومتراً.
في مرتفعات الجولان كان الوضع على المقدار نفسه من السوء بالنسبة إلى القوات الإسرائيلية. كان عنصر المفاجأة شاملاً.
ولقد حاول القادة الإسرائيليون بعد بدء القتال إخفاء فشلهم وسوء استعدادهم عندما أعلنوا بأنهم كشفوا التحشدات العربية، وفهموا حقيقة مغزاها، ولكنهم فضلوا عدم الرد عليها بضربة إجهاضية وفق أسلوبهم المعروف الذي شرحه ييغال آلون في كتاباته العسكرية، وقرروا تحمل الضربة الأولى كي لا يظهروا هذه المرة بمظهر المعتدي خاصة وأن الرأي العام العالمي قد تحول عنهم بعد حرب 1967 ولم يعد لهم من سند دولي سوى الولايات المتحدة. بيد أن حجم المفاجأة، وحالة الاضطراب التي عاشتها القيادة السياسية والعسكرية في الأيام الأولى للحرب، وعدم دعوة الاحتياط – ولو جزئياً – لمنع العرب من شن الحرب بواسطة الردع الناجم عن التلويح بالقوة، وضعف الهجمات المعاكسة التي شنتها قوات الاحتياط التكتيكية والعملياتية في المرحلة الأولى من الحرب، وتضارب البيانات العسكرية والتصريحات التي تدرجت من التهديد بسحق عظام العرب إلى الحديث عن الحرب القاسية طويلة الأمد، تشكل كلها دلائل تؤكد أن قيادة العدو وأجهزة استخباراته ارتكبت خطأ فاحشاً على صعيد فهم الأحداث، ووقعت في فخ استراتيجي كبير نصبته لنفسها وأحكمت شباكه طوال السنوات الماضية.
ويمكن القول هنا أن انتصار إسرائيل السهل في عام 1967 كان أكبر أعدائها، وأخطر ما تعرضت له في حياتها، وأن هزيمة 1967 علمت العرب دروساً كثيرة وكانت أفضل حلفائهم في الحرب الرابعة. وهكذا انطبقت على الصراع العربي – الإسرائيلي قاعدة أثبتها التاريخ العسكري أكثر من مرة، وهي أنه “يندر أن يتعلم المنتصر الكثير من انتصاره، أما المهزوم فهو أكبر المتعلمين من الهزيمة”، وعندها تذكر كثير من قادة إسرائيل قول بسمارك “الحمقى وحدهم يحتقرون تجارب الآخرين”.
__________________
  

الهامش

إن عبور قناة السويس بواسطة جيش كبير بل بواسطة جيشين في وقت واحد بكامل أسلحتهما وعتادهما وفي وجه مقاومة من العدو على الضفة الشرقية يعتبر مشكلة ضخمة بل كانت تبدو أحياناً كأنها عملية مستحيلة. إن عبور الموانع المائية بواسطة الجيوش كان دائماً من العمليات الصعبة. أما قناة السويس فإنها تعتبر مانعاً مائياً فريداً يختلف عن جميع الأنهار والقنوات لعدة أسباب منها: انحدار الشاطىء من الناحيتين وتدبيشه مما يعوق المركبات البرمائية من النزول إلى المانع المائي أو الصعود منه إلا بعد تجهيزات هندسية مسبقة. وهذه الصفة لا يشترك فيها مع قناة السويس سوى قناة بنما وعدد محدود من القنوات الصناعية، ومنها أن القوات الإسرائيلية أقامت ساتراً ترابياً على الضفة الشرقية للقناة مباشرة بارتفاع 10 – 20 متراً مما يجعل من المستحيل على أي مركبة برمائية العبور إلا بعد إزالة هذا الساتر، ومنها إنشاء خط بارليف على طول الساحل الشرقي للضرب على أي قوات تحاول العبور. وقد انتخبت مواقع هذا الخط بعناية فائقة بحيث تتحكم في جميع الاتجاهات وتستطيع أن تغمر بالنيران الجانبية أي قوات تعبر القناة وفي أي جزء منها، كما وأن تحول القناة إلى نهر ملتهب بواسطة خزانات وقود مدفونة تحت الأرض ومتصلة بالقناة بواسطة أنابيب، كان من الصعوبات المنتظرة.

   كانت القوات الإسرائيلية المدافعة عن خط بارليف تعتمد على خطة تقضي بإشعال القناة بالنار بفتح خزانات وقود لتصب فيها. ويسع كل واحد من الخزانات 200 طن من المواد الملتهبة على مسافات متقاربة بحيث يمكن للقوات الإسرائيلية أن تدفعها فوق سطح المياه، ثم تشعلها فيتحول سطح القناة إلى حمم ملتهبة تحرق كل شيء فوق الماء بل وتشوي الأسماك في عمق القناة وتلفح حرارتها الشخص الذي يبعد عنها بمسافة 200 متر. وتستطيع أن تتحكم في استمرار هذه النيران باستمرار دفع المواد الملتهبة إلى سطح الماء.

   كانت المشكلة الأولى التي جابهتها القيادة المصرية أن تتغلب على النيران الملتهبة التي سوف تغطي سطح القناة عند بدء العبور. وقد اتجه تفكيرها أول الأمر إلى إطفائها وقامت بعمل تجارب عملية على ذلك في أماكن شبيهة بالقناة فاتضح لها أن عملية الإطفاء تحتاج إلى مجهودات ضخمة وأن النيران تبقى مشتعلة حوالي نصف ساعة إذا لم يتم تزويدها بكميات إضافية من المواد الملتهبة. ومن هنا اتجه تفكيرها إلى ضرورة إبطال استخدام هذه المواد قبل العبور وإذا حدث أن أخفقت في إبطال استخدامها في بعض الحالات فإنه يجب عليها  أن تمنع العدو من تغذية الحريق بكميات إضافية من المواد الملتهبة، وذلك لإقلال فترة تعرض القوات المصرية للحريق إلى أقل وقت ممكن. ومن هنا بدأت العمل وتم استطلاع تجهيزات العدو الخاصة بهذا الموضوع فاتضح أنه يضع هذه المواد في خزانات كبيرة مدفونة تحت سطح الأرض حتى يصعب تدميرها بواسطة المدفعية وكانت هذه الخزانات متصلة بمواسير تحت سطح المياه لتندلع منها السوائل الملتهبة إلى سطح المياه. ومن الواضح أنه لو أمكن إغلاق هذه المواسير بأي وسيلة قبل بدء عملية العبور فإن السوائل الملتهبة لن تصل إلى سطح الماء ولن يحدث الحريق وكان هذا هو الاتجاه الذي أخذت به القيادة المصرية وبدأت بالتحضير له.
.. وقد تمت هذه العملية بنجاح تام ولم ينجح العدو في إشعال حريق واحد فوق سطح القناة وتم الاستيلاء على مستودعات المواد الملتهبة سليمة بكل ما فيها بل وتم أسر الضابط المهندس الإسرائيلي الذي قام بتصميمها. وقد أدلى في أقواله أنه حضر إلى القناة في اليوم السابق للقتال لكي يختبر هذه المستودعات.

   كانت المشكلة الثانية التي جابهتها القيادة المصرية هي كيف يمكن إزالة الساتر الترابي الذي أقامته القوات الإسرائيلية على الضفة الشرقية حتى يمكن أن تقيم المعديات والجسور على القناة؟ ويمكننا أن نتصور ضخامة هذه العملية إذا علمنا أن ثغرة واحدة في الساتر الترابي بعرض 7 أمتار تعني إزالة 1500 متر مكعب من الأتربة؟ كانت احتياجات القوات المصرية تتطلب فتح 60 ثغرة على طول القناة في كل جانب، أي إزالة حوالي 90,000 متر مكعب من الأتربة من الساتر الترابي شرق القناة. فإذا علمنا أن القوات المصرية أقامت خلال السنوات الست الماضية أيضاً ساتراً ترابياً في غرب القناة خشية أن يقوم العدو بهجوم مفاجىء عليها اتضح لنا أن المشكلة أصبحت مضاعفة وأنه كان يتحتم على القيادة المصرية أن تفتح ثغرات مماثلة في الساتر الترابي الغربي. اتجه تفكيرها أول الأمر إلى أن تفتح هذه الثغرات بواسطة التفجير واستمرت نظرية التفجير هي السائدة حتى منتصف عام 1971 إلى أن اقترح أحد الضباط المهندسين الشبان نظرية التجريف وهي استخدام المياه المندفعة تحت ضغط عال في إزالة هذه الرمال. أجريت التجارب وثبت نجاحها وأفضليتها على نظرية التفجير وأخذت القيادة تدخل التحسينات بزيادة قوة الماكينات إلى أن أصبح في مقدور رجال المهندسين أن يفتحوا الثغرة الواحدة في مدة تتراوح بين 3 – 5 ساعات، وقد فتحوا 60 ثغرة في الساتر الترابي وأقاموا عشرة كباري وما يقرب من 50 معدية عبر القناة، كل ذلك خلال فترة ما بين 6 و9 ساعات.

   من المشكلات التي جابهتها القيادة المصرية هي كيف تعيد تنظيم قواتها على الشاطىء الشرقي وكيف تصل الدبابات والمدافع والذخيرة إلى وحدات المشاة التي سبق عبورها.. كيف يتم كل ذلك ليلاً وتحت ضغط العدو وكيف تميز هذه الدبابات والأسلحة طريقها وتتعرف على وحداتها. ويمكننا أن نتصور هذه المشكلة إذا تخيلنا أن آلاف الدبابات والمركبات والمدافع الثقيلة كان يتحتم عبورها لتنضم إلى وحدات المشاة التي عبرت لتزيد من قدرتها على التمسك بالأرض وصد هجمات العدو المتكررة.. وقد قامت إدارة الإشارة وإدارة الشرطة العسكرية بواجبها على الوجه الأكمل فقد أمكن مد كوابل الإشارة عبر القناة منذ اللحظات الأولى للعبور وتم تحديد الطرق والمدقات التي تسلكها الدبابات والعربات وتم تمييزها بالألوان المختلفة بحيث كان يعلم السائق أنه إذا اتبع اللون الأحمر مثلاً فإنه سيصل إلى وحدته في رأس الجسر بينما يتبع سائق آخر اللون الأخضر وهكذا.

   اختارت القيادة المصرية أن يكون هجوم القوات المصرية عند الساعة “س” ساعة الصفر في يوم “ي” يوم 6 تشرين الأول على كل المواجهة… على خط يمتد 180 كيلومتراً، هي طول القناة من بور سعيد في الشمال إلى السويس في الجنوب، لأن الهجوم على طول المواجهة بهذا الشكل سوف يفرض على العدو ما يلي:
1- سوف يكون مرغماً على توزيع ضرباته الجوية المضادة على قواتنا.
2- بسبب هذا التوزيع، فإن هذه الهجمات المضادة في كل مكان، سوف تكون ضعيفة في كل مكان، لأن المواجهة متسعة.
3- بسبب هذا الاتساع، فإن العدو لن يستطيع مبكراً اكتشاف اتجاه المجهود الرئيسي للقوات المصرية المهاجمة، وبالتالي فإنه لن يستطيع التركيز عليه.
4- بسبب هذا الاتساع فإن العدو سوف يتأخر في رد فعله بالهجمات المضادة على الأرض، لأنه سوف ينتظر لكي يكتشف اتجاه المجهود الرئيسي لقواتنا وبعدها يتحرك. هكذا بدأ تفكير القيادة المصرية… وثبت عند بدء العمليات أنه كان سليماً.

لقد كان تحديد يوم “ي” عملاً علمياً على مستوى رفيع.
كان لا بد أن يتحرك الموقف من وجهة نظر التقدير السياسي سنة 1973 بعد وصول التأييد العربي والعالمي لمصر وسورية في كل المجالات إلى الذروة العالية التي لا مجال بعدها لإضافة.
ومن ناحية التحديد فقد كانت القيادة المصرية تريد ما يلي:
1- ليلة مقمرة يتصاعد، فيها القمر مع القوات المصرية المهاجمة في الساعات الحاسمة.
2- ليلة يكون تيار القناة فيها مناسباً للعبور من ناحية السرعة.
3- ليلة يكون عمل القوات المصرية فيها بعيداً عن توقعات العدو.
4- ليلة لا يكون فيها العدو نفسه مستعداً للعمل.
هذه الميزات حددت 6 أكتوبر (تشرين أول) من قبلها بشهور.
1- الحسابات الفلكية أشارت أن في تلك الليلة قمراً ينمو في أول الليل ثم يغيب في آخره.
2- علماء القوات المسلحة درسوا تقارير هيئة قناة السويس لسنوات طويلة سبقت لكي يحسبوا سرعة التيارات في كل يوم من أيام السنة وكان يوم 6 أكتوبر أكثرها مناسبة.
3- العدو لا يتوقع من القوات المصرية العمل في شهر رمضان.
4- العدو مشغول بمناسبات مختلفة بينها انتخاباته العامة التي تشد اهتمام الجميع.
كان الرئيس السادات من وجهة نظره السياسية يسميها عملية “الشرارة”، وأما الاسم الرمزي في الخطة العسكرية فقد كان “بدر”.

   أما عن تحديد ساعة “س” – فقد ظل الموعد إلى أيام قبل بدء القتال موضوع مناقشة بين القيادتين المصرية والسورية.
   كان السوريون لعدة أسباب من بينها اتجاه الشمس معهم وضد العدو يفضلون العمل مع أول ضوء في الفجر.
   وكان المصريون – لعدة أسباب من بينها إلى جانب اتجاه الشمس، وضرورات العبور ونصب الجسور وفتح الطريق لدخول المعدات الثقيلة كالدبابات في ظلام الليل – يفضلون العمل في آخر ضوء في المساء.
   وكان وزير الحربية المصري بوصفه قائداً عاماً للجبهتين قد بعث إلى السوريين يوم 20 أيلول بإشارة التحذير بأن العملية محتملة في أي وقت – وهنا بإشارة تقول : “بدر”.
وسافر بنفسه يوم 2 تشرين الأول إلى سورية للبحث حول الساعة وبعد دراسة تفصيلية صدق عليها الرئيس حافظ الأسد تحددت الساعة الثانية بعد الظهر موعداً “لساعة س”.

   وصلت تدابير الكتمان لدى القيادة المصرية إلى درجة أن يوم “ي” لم يكن معروفاً بعد تحديده مبدئياً إلا من اثنين: الرئيس السادات ووزير الحربية.

   وحتى عندما بدأ العد التنازلي من يوم “ي”بالناقص، وذلك قبل شهر من بدء العملية، فإن السر ظل محصوراً.
   وعندما بدأ الحشد أخذت القيادة تدفع إلى الميدان بلواء مثلاً… ويعود في الليل بكتيبة لكي يشعر العدو أن القوات التي ذهبت كانت في مهمة تدريب أدتها وعادت منها.
   كما جرى تأخير إرسال معدات العبور إلى أقصى حد ممكن فقد كان مؤكداً أن خروج هذه المعدات من مخازنها كفيل بتنبيه العدو إلى نوايا القيادة المصرية، فصنعت هذه القيادة لبعض هذه المعدات صناديق خاصة لا يشعر أحد أن الشاحنات الضخمة التي تحملها شاحنات مهندسين. ثم أقامت لهذه المعدات حفراً على جانب القناة نزلت إليها فور وصولها في الليل.         
   كانت الخطة خلال هذا كله بالطبع قد اكتملت إلى آخر التفاصيل… بل إلى تفاصيل التفاصيل وكان ذلك طوال الوقت بالتنسيق مع سوريا.
   وقبل أيام قليلة من يوم “ي” كانت تفاصيل الخطة تنزل من قادة الجيوش إلى قادة الفرق، ثم قادة الألوية، ثم قادة الكتائب.
   بعض الجنود من طلائع الهجوم عرفوا قبلها بثمان وأربعين ساعة، وبعضهم عرفوا في الصباح يومها.

   عند  تمام ساعة الصفر كانت القوات التي أشعلت النار تتألف من:
   ضربة الطيران الرئيسية: مائتا طائرة تقوم بالضربة الأولى على مواقع العدو الحساسة في الجبهة المصرية، ومائة طائرة تقوم بالضربة الأولى على الجبهة السورية.
   تمهيد هائل بالمدفعية: ألفا مدفع تهدر في نفس الوقت على أربع قصفات متلاحقة…
   موجات الهجوم الأول: ثمانية آلاف رجل ينزلون إلى قوارب المطاط وغيرها من الوسائل ويبدأون العبور تحت النار. كان ذلك أشبه بجحيم من نار فاجأ العدو وأصابه بالشلل.
______________________________

 

 

 

  
__________________________

Print Friendly

عن admin

شاهد أيضاً

الشرارة : العمليات الحربية: الحرب على الجبهة السورية

  الشرارة  العمليات الحربية الحرب على الجبهة السورية

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *