بقلم: واصف عواضة
بيروت في 23-8-2003
عباس بدر الدين… المدرسة!
كان ذلك في ربيع العام 1973. لم أكن قد تجاوزت السابعة عشرة ربيعاً. كنت أحضّر لامتحانات شهادة البكالوريا – القسم الأول عندما توفي خالي في السنغال في أفريقيا، وقد أقمنا له بحسب التقاليد إحتفالاً تأبينياً في حسينية الناقورة في حضور جمع من العلماء من معارفنا ومعارف ابناء الفقيد، فضلاً عن أبناء البلدة والقرى المجاورة.
كلفتني العائلة أن أتولى تعريف الاحتفال التأبيني، وكنت قد أحترفت ركوب المنابر في سن مبكرة. وشاءت الصدف أن يشهد منبر المناسبة جدلاً حاداً بيني وبين بعض الخطباء من رجال الدين حول الاوضاع السياسية والاجتماعية في البلاد، حيث انبريت في هجوم على الدولة اللبنانية التي تهمل المنطقة الجنوبية.
ما كاد الاحتفال ينتهي، وبينما أنا أغادر الحسينية حتى اقترب مني رجل مربوع القامة، ابيض اللون، باسم المحيى، وبادرني مصافحاً: “انا عباس بدر الدين…. أود أن أهنئك على جرأتك وبلاغتك الخطابية”.
شكرته بالطبع على هذا الإطراء، لكنه تابع قائلاً: “أنا اعتقد أن مستقبلك سيكون في الصحافة، فإذا كنت راغباً باحتراف الصحافة فإن بابي مفتوح لك من الآن”.
قلت: “نعم… وأنا أحب الصحافة وأحلم بأن أكون صحافياً أومحامياً…. ولكن أود أولاً أن أكمل تعليمي، على الأقل أن أنهي دراستي الثانوية، وبعدها لكل حادث حديث”.
أجابني على الفور: “على راحتك، ولكن عندما تقرر لن تضيع عن عنوان الوكالة في بيروت”.
وانتهى الحديث الأول بيني وبين عباس بدر الدين عند هذا الحد.
ومضت السنوات وبدأت الحرب اللبنانية في العام 1975، وأنهيت دراستي الثانوية وحصلت على شهادة في الرياضيات في ذلك العام، وكان من الطبيعي في ظل المعارك الطاحنة التي شهدتها العاصمة بيروت والعديد من المناطق اللبنانية أن تتوقف الحياة في لبنان بمعظم وجوهها، وانخرطت في الحياة السياسية والعسكرية كمعظم شباب جيلي. وعلى الرغم من بشاعة هذه الحرب، والندم الذي انتابني لاحقاً على الإنسجام فيها، إلا أنني اكتسبت من خلالها ثقافة سياسية واجتماعية استفدت منها لاحقاً في حياتي المهنية والعامة.
في خريف العام 1976 توقفت الحرب بدخول قوات الردع العربية إلى لبنان، وبدا لنا أن كل شيء قد انتهى بصدمة لا توصف، حيث اخفق جيلنا في تحقيق الاحلام التي طرحها وخاض الحرب على اساسها ومن مشاريع التغيير وإصلاح النظام وغير ذلك من الطموحات، وتبين لنا أن النظام اللبناني الطائفي السيء هو امتن من أن يقع في قبضة بعض الحالمين من أمثالنا وأمثال القيادات التي حكمت تلك المرحلة.
كان علي في تلك المرحلة أن انتقل إلى بيروت للانتساب إلى الجامعة التي لم تكن حتى ذلك الوقت قد فتحت لها فروع في المناطق. وبالفعل انتسبت إلى كلية العلوم في منطقة الحدث لأتابع دراسة الرياضيات على الرغم من اتجاهاتي الأدبية، لم أفكر في تلك السنة بالعمل لسببين رئيسيين: الأول أن دراسة الرياضيات لا تتحمل شريكاً، والثاني ولعله الأهم انني شاركت مع أحد أقربائي على محل صغير في منطقة اللعازارية لبيع أشرطة الكاسيت، ما مكنني من تأمين مصروفي الشخصي وأغناني عن التفكير بالعمل.
لكن الرياح لم تستمر كما اشتهي. فلا أنا أستطعت التقليع في دراسة الرياضيات لأسباب عدة، ولا بيع أشرطة الكاسيت استمر في تأمين مصروفي، وكان ذلك بداية التحول في حياتي المهنية.
في خريف العام 1977 انضممت إلى الأسرة التعليمية للمعهد العربي في زقاق البلاط كمدرس لمادة الرياضيات براتب شهري قدره وثلاثمائة ليرة لبنانية، وهوالحد الأدنى للأجور في ذلك الوقت. لكن ذلك لم يدم أكثر من عشرة أيام. تذكرت عباس بدر الدين في عز الشدة باعتبار أنني لم أكن راغباً في مهنة التعليم.
دلفت إلى منطقة الأسواق التجارية حيث مقر الوكالة في بناية “خاتون”-الباشورة. استقبلني “السيد” عباس بوجهه البشوش وبادرني قبل أن أنبث ببنت شفة: “هل قررت الانخراط في الصحافة”؟
قلت: نعم
أجابني على الفور: “على بركة الله…. تستطيع أن تبدأ من الغد”…
قلت له: حسناً ولكن عندي مشكلة.. وهي أنني تعاقدت على التعليم في المعهد العربي وهناك بند جزائي قدره خمسة الاف ليرة….
ضحك عباس بدر الدين وقال لي: “ليس هناك مشكلة… الدكتور حسين يتيم صاحب المعهد اكثر من صديق وهورفيق درب… اترك هذا الموضوع علي…
وتركت هذا الموضوع في عهدته، مع أنني لم أفهم إلا لاحقاً ماذا كان يعني بتعبير “الدكتور حسين يتيم رفيق درب”، حيث كانت تجمعهما عباءة واحدة هي عباءة الإمام السيد موسى الصدر.. ولعله من سوء حظ عباس بدر الدين أن هذه العباءة الشريفة الكبيرة الطاهرة كانت سبباً في غيبته المستمرة منذ العام 1978. وكنت قد عشت شخصياً نحوعشر سنوات في ظل هذه العباءة بين صور وبيروت واكتسبت الكثير الكثير من الامام الصدر وفكره النير وانفتاحه اللامحدود، حيث توثقت علاقتي بالمام إلى حد كبير وأنا فتى في سن المراهقة.
في صباح اليوم التالي، في التاسع من تشرين الأول عام 1977 فاجأني الدكتور يتيم وأنا شارد الذهن على باب المعهد العربي بالقول: لقد كلمني السيد عباس في موضوعك… تستطيع من الآن أن نختار بين المعهد والوكالة من دون أي مترتبات جزائية…. الله يوفقك!!
لم أصدق أن المسألة انتهت بهذه السهولة… شكرت الدكتور يتيم الذي اصبح فيما بعد صديقاً واخاً كبيراً، وتوجهت من ساعتي إلى الوكالة…. وهكذا بدأت حياتي الصحافية في العاشر من تشرين الأول عام 1977، مع أحد أهم الأساتذة. فقد كان عباس بدر الدين مدرسة صحافية تتلمذ عليها الكثيرون من أبناء جيلي… هذه المدرسة التي عمل فيها أساتذة كبار، ارتحل بعضهم إلى دار البقاء، والبعض الآخر ما زال يتولى مسؤوليات صحافية كبيرة في لبنان والخارج.
كان الدرس الأول الذي تعلمته في مدرسة عباس بدر الدين، في أول يوم بدأت فيه حياتي المهنية. استدعاني إلى مكتبه وقال لي: هناك مؤتمر صحافي في نقابة الصحافة بعد ساعة من الآن، أرجوأن تذهب لتغطيته.. حاول أن تدون كل ما تسمعه.
حاولت أن استفسر كيف نغطي مؤتمراً صحافياً، لكنه قاطعني قائلاً: سنتكلم عندما تعود…. رافقتك السلامة…. لا تنسى أن تأخذ قلماً وأوراقاً (لم يكن قد بدأ بعد عصر آلة التسجيل الصوتي عالم الصحافيين، كانت اذن الصحافي هي الميكروفون، وذاكرته هي آلة التسجيل).
ذهبت إلى نقابة الصحافة في منطقة رأس بيروت صاغراً.. حضرت المؤتمر الصحافي الذي شارك فيه نقيب الصحافة انذاك المرحوم رياض طه…. استمعت، دونت، وقفت عائداً إلى الوكالة.
…. “أكتب كل ما سمعته خلال المؤتمر “قال لي السيد عباس من دون أي توجيه”.
وكتبت ما سمعت ودونت، وسمحت لنفسي أن اتدخل بأسلوب أدبي إنشائي خطابي شاعري…. ولكم كانت صدمتي عندما قرأ عباس بدر الدين ما كتبت، ليمزق بعد ذلك الأوراق العشرة ويرمي بها في سلة المهملات. أحسست ساعتئذ أن الدم يفر من وجهي وعيني وأذني. وقبل أن تقتلني الصدمة، بادرني هاشا باشا: أسمع عليك أن تنسى كل مواضيع الانشاء والخطب التي القيتها على المنابر، فهذه لا علاقة لها بالخبر الصحافي.
قلت: وما هو الخبر الصحافي؟
أجابني: اكل…. الولد…. التفاحة!!!
قلت: وما هي علاقة الصحافة بالأكل والولد والتفاح؟
أجاب: أقصد… الخبر الصحافي فعل…. وفاعل… ومفعول به!! فقد!
واردف قائلاً: عقد فلان الفلاني مؤتمراً صحافياً قال فيه كذا وكذا وكذا…. المسألة لا تحتاج إلى فلسفة!
قلت: وهل هذه هي الصحافة؟
قال: هذه هي البداية…. والبقية تأتي.. أذهب إلى مكتبك واعد كتابة الموضوع بصيغة الخبر الصحافي…
وذهبت واعدت كتابة الموضوع بحلة جديدة، واعدته إليه، فاعاد قراءته مع بعض الملاحظات البسيطة قائلاً: إلا بدأت طريقك إلى الصحافة!!
الدرس الثاني الذي تعلمته من مدرسة عباس بدرالدين هوالحياد والتجرد والأمانة الصحافية من خلال عزل مشاعرنا وارائنا السياسية عن حياتنا المهنية وتحديداً عن الخبر الصحافي.
كان قد مضى نحوثلاثة أشهر على بداية عملي عندما ارسلني السيد عباس إلى مجلس النواب، وكان مقره المؤقت في قصر منصور في منطقة المتحف، وذلك بهدف اعتمادي مندوباً دائماً للوكالة في البرلمان. وقد كلف الزميل المرحوم حسن يونس أن “يأخذ بيدي” إلى المجلس ويقدمني إلى الزملاء، وكانوا نخبة من صحافيي البلد، باعتبار أن مجلس النواب هوالمصدر الأول للأخبار حيث تلتقي فيه أيضاً نخبة السياسيين، من نواب ووزراء وصحافيين وزوار من مختلف الأحزاب والفئات.
رحم الله الزميل حسن يونس الذي علمني دروساً كثيرة في الصحافة لا تتطرق إليها معاهد الاعلام ولا الكتب والمنشورات. فعلى مدخل قصر منصور استوقفني وقال لي ببساطة مطلقة: اسمع…. انت داخل الآن إلى أهم وكر من أوكار السياسة في البلد.. معظم الموجودين في الداخل من المحنكين الذي عصرتهم الأيام وعجنهم الدهر، لذلك حاول جاهداً الا تقع في حبائلهم خصوصاً انك جديد عليهم وسيحاولون العبث معك كثيراً، فكن حذراً….
قلت: وماذا تريدني أن أفعل؟
قال: حاول أن تستمتع أكثر مما تتكلم، خصوصاً في المرحلة الأولى.
وأخذت بالنصيحة “اكثر من اللازم”… لكني تعلمت من خلال ذلك احدى أهم فضائل المهنة وهي فضيلة السمع، واكتشفت بعد ذلك أن الصحافي الذي لا يسمع جيداً لا يمكن أن يقارب النجاح.
ولنعد إلى مجلس النواب في تلك المرحلة. كان الرئيس كامل الأسعد على رأس هذه المؤسسة، ولم أكن في ذلك الوقت من المعجبين به، بل أكثر من ذلك كنت أمقت هذا الرجل لأكثر من سبب شخصي وسياسي. فهو في ذهني يمثل الاقطاع السياسي الذي يحكم الجنوب ويغرقه في التخلف. وهو بالتالي أحد أقطاب الطبقة الحاكمة التي تنقل كاهل البلاد. وهوأيضاً وأيضاً الخصم الرئيسي للإمام موسى الصدر الذي كنت قريباً منه وكنا نرى فيه ثورة المحرومين والفقراء.
في تلك الصبيحة لم يكن دولة الرئيس قد وصل بعد إلى مقر المجلس. كان كل شيء يبدو طبيعياً في قصر منصور، قبل أن نسمع اصوات صفارات اتية من بعيد.. فجأة اهتز المجلس بكل من فيه: ضباط شرطة المجلس يتراكضون في كل اتجاه، كبار موظفي المجلس يهرولون نحوالباحة الخارجية، الصحافيون يحشرون في غرفتهم الضيقة، حتى النواب يدخلون إلى بعض القاعات أو يأخذون زوايا البهو مكاناً لهم. أما أنا الذي حشرت نفسي مع الصحافيين ولم أفهم ما الذي يجري (مثلاً الأطرش في الزفة) فقد سمحت لنفسي أن أسأل أحد الزملاء إلى جانبي عما يجري، فأجابني باستهجان لا يخلومن السخرية: “لقد حضر دولته…”.
.. “وهل حضور دولته يستأهل كل هذا الأمر؟”… سألت بجدية وطيب طوية. التفت إلي الزميل باستهجان بالسخرية أيضاً ولم يجب…
ووصل “دولته” وشاهدت القليل من الموكب الامبراطوري الذي دخل فيه إلى مكتبه في الطابق العلوي وبعدها فك أسرنا جميعاً وعادت الأمور إلى طبيعتها.
لم أستطع أن اتحمل المزيد، أنا الطالع من حرب ومن ثقافة ثورية اخفقت في التغيير… قفلت عائداً إلى الوكالة فاستغرب السيد عباس عودتي في هذا الوقت، فقصصت عليه ما جرى وقلت أنني لا أستطيع أن أتحمل هذه المشاعر، وارجو اعفائي من هذه المهمة.
ضحك عباس بدر الدين طويلاً (ربما من سذاجتي) واضحك معه الموظفين في الوكالة لدرجة وجدت نفسي محرجاً إلى حد الخجل. لكنه عندما شعر بحراجة موقفي اقترب مني ولف يده حول كتفي على سبيل التودد وقال لي باسماً: واضح أنك تكره هذا الرجل جداً.
قلت: نعم… ولا استطيع العمل في مكان أكره رئيسه.
قال: حسناً…. ضع لنا لائحة بالذين تحبهم من السياسيين.
وجدت نفسي محرجاً مرة أخرى، لكنني أجبت: أنهم قليلون جداً… ربما إثنان أوثلاثة.
قال: إذن لقد حشرت نفسك في زاوية ضيقة. تصور أنك ستحصر عملك الصحافي في اثنين أوثلاثة من سياسيي البلد… عندئذ أؤكد لك من الآن أنك لن تتعلم الصحافة ولن تصبح صحافياً في حياتك.
وأردف قائلاً: أنا أيضاً لا أحب كامل الأسعد، ربما مثلم وربما أكثر، فهل يفترض ذلك ألا أغطي نشاط مجلس النواب ورئيسه؟ تصور مثلاً أن تستنكف الصحف اللبناني عن نشر أخبار ونشاطات القادة الإسرائيليين مثلاً، فهؤلاء نركههم أيضاً أكثر من كامل الأسعد وبعض السياسيين اللبنانيين.
وأضاف السيد عباس بلهجة ودية وراعوية: أن عملنا يا عزيزي لا علاقة له بالحب والكراهية، فالصحافة الصحيحة والصادقة هي التي تنقل الخبر بحياد وامانة وتترك الناس أن يقدروا وأن يحبوا ويكرهوا….
ووجدت نفسي أتعرق من شدة الاحراج امام السيد عباس والموظفين في الوكالة. واكتشفت كم كانت التجربة الحزبية التي مررت بها خلال سنتي الحرب مؤثرة بل مدمرة لثروتي الفكرية، ومنذ ذلك الحين بدأت اتعود شيئاً فشيئاً كيف أقبل الآخرين كما هم، وليس كما أريدهم، وأن يكون الحوار هوالفصل مع الآخرين.
كان السيد عباس في تلك اللحظة ينظر إلي مبتسماً. ثم ما لبث أن قطع شرودي قائلاً: كنت تريد أن تكمل طريقك في هذه المهنة، عليك أن تعود الآن إلى مجلس النواب.
قلت:غداً إن شاء الله..
قاطعني بحزم:… الان..
قلت: سمعاً وطاعة..
ومضيت الى مجلس النواب وأمضيت فيه سنوات طويلة، وتعلمت فيها الكثير وجاء بعد كامل الأسعد الى المجلس رئيسان أحببتهما وكنت قريباً منهما الى أبعد ما يمكن أن يتصوره صحافي، ومع ذلك لم أسمح لهذه المحبة أن تتدخل في حياديتي وأمانتي الصحافية في تغطية أخبارهما، لا في لبنان ولا في الخارج حيث رافقتهما في عشرات الرحلات الخارجية.
تعلمت الكثير من عباس بدر الدين وكان يمكن أن اتعلم أكثر لولم يكن قدره هذه الرحلة المشؤومة الى ليبيا في أواخر آب 1978 برفقة الامام الصدر والشيخ محمد يعقوب حيث اختفى أثرهم ولم تحمل المعلومات خبراً يقيناً عن مصيرهم بعد ذلك على الرغم من الشائعات الكثيرة التي لم يثبت صحة أي منها.
تعلمت من السيد عباس الدقة. كان يحسب الأمور جيداً. حتى تلك الرحلة الى ليبيا كان قد حسب لها جيداً، وأسمح لنفسي بالقول استناداً الى معرفتي ومعرفة بعض الاصدقاء أنه ذهب اليها شبه مرغم بعد أن طلب منه الامام ذلك، حيث كان يريد اصطحاب اعلامي كبير من أبناء الطائفة ومن أهل البيت فوقع الاختيار على عباس بدر الدين. وقد فهمت أكثر معنى ذلك لاحقاً عندما كان خليفة الإمام الصدر في المجلس الشيعي الامام الشيخ محمد مهدي شمس الدين يطلب مني شخصياً مرافقته في رحلاته الخارجية. ولا داعي أنني كنت أرافقه مرغماً بل بكل طيب خاطر لكنني لم أكن أتردد لحظة واحدة في تعطيل كل اعمالي في بيروت من أجل هذا الغرض، حيث إمتدت إحدى الرحلات أربعين يوماً متواصلاً رغم أنني كنت حينها أشغل منصب رئيس تحرير الاخبار في تلفزيون لبنان.
المهم أن عباس بدر الدين كان خائفاً من هذه الرحلة. وأشهد صادقاً إنه أسر لي وللزميل محمد بنجك بذلك عندما ودعنا في الوكالة، وكنا قد انتقلنا من الوسط التجاري الى مقر المعهد العربي في زقاق البلاط، بسبب تجدد الحرب بعد اغتيال النائب طوني فرنجية في حزيران من العام 1987.
والحقيقة أن عباس بدر الدين لم يكن وحده الخائف من هذه الرحلة، بل ان معظم قيادة حركة أمل كانوا كذلك. وقد حاولوا جاهدين اقناع الامام الصدر بالغائها باعتبار أن هذا الرجل الموجود على رأس النظام الليبي لا يؤمن له.
وقد روى لي فيما بعد أكثر من عضوفي المكتب السياسي لحركة أمل في ذلك الحين وقائع الاجتماع العاصف الذي سبق سفر الامام ورفيقيه بيوم واحد، وهوما دفع الامام الصدر في لحظة من اللحظات الى التردد، لكن الشيخ محمد يعقوب كان مصراً على هذه الزيارة، وقد سمعت شخصياً الصراخ المنبعث من داخل القاعة في مدينة الزهراء في خلدة حيث كان مقر المجلس الشيعي والذي تحول فيما بعد الى مقر للجامعة الاسلامية. وقد حسم الامام الصدر الموقف أخيراً وقال:.. وان عزمتم فتوكلوا. أنا مسافر غداً وعلى الله الاتكال. وهكذا كان وحصل ما هوباق حتى الآن قضية معلقة في علم الغيب.
قلت انني تعلمت الدقة من عباس بدر الدين وخصوصاً دقة الخبر. لم يكن يضيره أكثر من الخبر الكاذب، لذلك كان يصر دائماً على توكيد الخبر من أكثر من مصدر قبل نشره. ولذلك اكتسبت ” وكالة أخبار لبنان” مصداقية بالغة بحيث كانت الصحف تعتمدها بالكامل ومن دون أي مراجعة.
والى الدقة في الخبر تعلمت من عباس بدر الدين الدقة في اللغة. كان يعتبر أن اكثر ما يسيء الى الصحافي والى الصحافة بشكل عام هوالاخطاء اللغوية. ولكم كان يدور جدال معه في الوكالة حول خطأ شائع، فلا يحسم الأمر إلا باستشارة العلامة الكبير الشيخ عبدالله العلايلي ليفصل في الأمر.
لم يطل عملي مع عباس بدر الدين أكثر من أحد عشر شهراً، لكنني أحسب الى الآن أنها إحدى عشرة سنة، ويشهد كل الذين عملوا معه أوتتلمذوا في مدرسته أنه كان على خلق، وتلك الصفة يفتقر اليها الكثير من أرباب العمل… لقد حفظت الكثير من خصاله وسأظل أذكره بالخير ما حييت.