العلمانية كخيار سعودي: المساحة بين الممكن والضرورة
أحمد عدنان – الأخبار اللبنانية – 5 مايو 2010
· العلمانية ليست دينا ولا تتناقض مع الإسلام.. ولكنها تتصادم مع تيارات الإسلام السياسي وبعض رجال الدين
· الدولة العلمانية هي الدولة الحَكَم التي لا تنحاز لتيار ضد آخر، وفي نفس الوقت، تمنع أي تيار من فرض أجندته على الآخرين
الحديث عن العلمانية في السعودية قد يبدو ضربا من الجنون بسبب الفتاوى الهائلة التي تكفر العلمانيين وتحرم العلمانية تحت عناوين “الحكم بغير ما أنزل الله” أو “الحكم بالطاغوت”.. وبسبب الأرض التي تضم حدودها الحرمين الشريفين.. ونشوء الدولة على تحالف بين مؤسسة دينية ومؤسسة سياسية.
ولكن هذا الجنون.. واستنادا على معطيات الحاضر.. وأسئلة المستقبل، قد تجد النخب الثقافية والسياسية في السعودية أنه أصبح – مع وطأة الوقت – نوعا من الضرورة لاستكمال بناء الدولة الحديثة (دولة القانون والمؤسسات والمجتمع المدني).. ومعالجة مظاهر الانتماء لمستويات أدنى من مستوى الدولة (القبيلة – المذهب – الإقليم) وتعزيز الولاء للنظام السياسي، وتصحيح علاقات المؤسسة الدينية بالسلطة والمجتمع.
الحديث عن العلمانية في السعودية كخيار لا بد منه، يقف وراءه 3 محرضات: تصريح وزير الخارجية الأمير سعود الفيصل في 14 مارس 2010 لـ (نيورك تايمز): “السعودية الآن تتحرر من أغلال الماضي وتسير إلى مجتمع ليبرالي”، الخبر الذي تناقلته وسائل الإعلام مؤخرا عن حصول مواطن سعودي على حق اللجوء السياسي في نيوزلندا بسبب اعتناقه المسيحية، والحرب الدورية بين الليبراليين والتيار الإسلاموي في ساحة الصحافة السعودية والإعلام.
العلمانية، كأي مفهوم في فضاء العلوم النظرية يحتمل تعريفات واسعة، منها: “الفصل بين الدين والدولة”، “نظام أخلاقي واجتماعي يقوم على اعتبارات الحياة المعاصرة وتبني المدنية والمواطنة، ورفض تدخل المؤسسة السياسية في أمور الاعتقاد.. ورفض تدخل المؤسسة الدينية في أمور السياسة”.
وهذه التعريفات المتعددة، أدت بالضرورة إلى نماذج تطبيقية متباينة كما يوردها رقيق عبدالسلام في بحثه (السياسة والدين في العصر الحديث): نموذج التصادم مع الدين كما في المثال الشيوعي، ونموذج حياد الدولة إزاء الشأن الديني كما في الدول الاسكندنافية، وأخيرا.. نموذج التناغم مع الكنيسة (المؤسسة الدينية) كما في الولايات المتحدة وإيطاليا وبريطانيا، ومن خلال أغلب النماذج نلاحظ أن تطبيق “الفصل” بين الدين والدولة أو تحييد الدين في الحياة السياسية بصورة مطلقة لم يتحقق لصالح موضعة المؤسسة الدينية كإحدى معطيات الحياة العامة دون هيمنة أو تسلط، ويجدر التأكيد على خطأ منهجي بالحكم على العلمانية عبر إحدى تجلياتها – كما يقع في ذلك بعض الباحثين الإسلامويين – والأصوب قراءتها في سياقها التاريخي ومجموع أمثلتها والمحصلة النهائية لتطبيقاتها.
وبدون الخوض في التفاصيل، نستطيع استعراض جذور العلمانية منذ انطلاقة حركة الإصلاح البروتستانتي في القرن السادس عشر والتي شددت في بواكيرها على الكتاب المقدس كمرجع وحيد لتفسير العقيدة المسيحية وحرية هذا التفسير.. وتقديم الطاعة للسلطة الزمنية على حساب السلطة الروحية أو ما يعرف بـ (السلطان المطلق للملوك).. كردة فعل على طغيان الكنيسة الكاثوليكية –وليس الدين المسيحي– وأخطائها (صكوك الغفران – محاكم التفتيش – نفوذ البابا المطلق- تحالف الكنيسة مع الإقطاع) الذي أتاح مؤازرة شعبية ونخبوية للحركة التي تزامنت – بشكل أو آخر – مع قيام الممالك والإمارات الصغيرة على أنقاض الإمبراطورية الرومانية الغربية ونزعة بعض الأمراء والملوك للاستقلال عن النفوذ البابوي مما حقق أرضية سياسية تتعاطف مع الحركة، وبداية الكشوفات الجغرافية – ثم النزعة الاستعمارية والتحول إلى الحداثة الصناعية – التي خلقت مبررا آخر – اقتصادي – لاستقلال السلطة الزمنية عن الكنيسة تحت تحريض مصادرة ممتلكاتها وعدم إعفائها من الضريبة!.
ووفقا لهذه المعطيات، نشبت خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر معارك دينية في أوربا بين البروتستانت والكاثوليك وطدت – في النهاية – سلطان البروتستانت في شمال القارة الأوربية – وربما أغلبها – لينحصر المذهب الكاثوليكي في جنوبها.
وخلال احتدام هذه المعارك، بقيت السلطة الزمنية – غالبا – على ظلم الناس ودعم الإقطاع الزراعي، لذلك.. اتجهت النخب الأوربية في نتاجها الفكري إلى تقييد سلطان الملك بالله وبالشعب، وبعد ذلك.. مع تطور الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية نضجت فكرة “أن سلطة الملك تستمد من الشعب وحده” فتتبلور نظرية العقد الاجتماعي: “رضا المحكوم أساس سلطة الحاكم”.
وخلال هذا السياق – المعقد – ومع تبلور مفهوم الدولة القومية وانتقال أوربا من مرحلة الاقتصاد الزراعي إلى الحداثة الصناعية ونمو المدينة – وبالتالي نشوء الطبقة البرجوازية – اشتعلت الثورة الفرنسية في 1789 كانتفاضة على الإقطاع الزراعي والنفوذ الكاثوليكي والسلطة المطلقة للملك بشعارها المشهور (حرية – إخاء – مساواة)، وإن كانت الحركة البروتستانتية عاملا غير مباشر في قيام الثورة الفرنسية، إلا إن هذه الثورة تأثرت مباشرة بثورتين سبقتاها زمنا: الثورة البريطانية 1688 ووثيقة الحقوق التي أصدرها البرلمان البريطاني 1689.. والثورة الأميركية التي بدأت بحفلة الشاي 1773 وشعارها المعروف “لا ضرائب بدون تمثيل” ثم إعلان الاستقلال في 1776 الذي جاء فيه: ” إننا نؤمن بأن الناس خُلقوا سواسية، وأن خالقهم قد وهبهم حقوقاً لا تقبل المساومة، منها حقّ الحياة والسعي لتحقيق السعادة”، وهنا نلمس إحياء جديدا للديمقراطية – التي نشأت منذ دولة المدينة في الحضارة اليونانية – عبر البرلمان البريطاني الذي حقق السلطة العليا بعد الثورة البريطانية.. والكونجرس بعد الثورة الأميركية.. ومجالس الثورة الفرنسية، ومن خلال هذه الثورات نشير – كذلك – إلى تشكل البذور الأولى لمفهوم حقوق الإنسان (الذي توج – فيما بعد – بإعلان الأمم المتحدة 1948) .
هذه التطورات أدت إلى آثار اجتماعية واقتصادية أبرزها: حرية الاعتقاد وحرية الفرد والسوق المفتوح تحت عنوان عريض هو “الليبرالية”.. أي حق أي إنسان أن يحيى حرا وفق قناعاته تحت مظلة مسؤولية الاختيار.. وحرية اختيارات الآخرين، مع التأكيد على أن الليبرالية في الأصل مفهوم اقتصادي مثّل النقيض – لاحقا – في مواجهة الاشتراكية والشيوعية.
الخلاصة من هذا السرد التاريخي أن العلمانية ليست مفهوما مغلقا.. بل متسلسل، يرتبط بمفاهيم : “الديمقراطية”، “الحداثة”، “الليبرالية”، “المواطنة”، و”حقوق الإنسان”، وتكمن أهمية هذه الإشارة.. في وضع الصراع مع جماعات الإسلام السياسي في إطاره الدقيق، أي كتحد ثقافي واجتماعي وليس مجرد الاختلاف على تفسير النصوص الدينية، وفي إطار آخر.. توصيف الاختلاف بين الشعوب وبعض الأنظمة في سياقه السليم، أي المنطق الحقوقي والسياسي في المجمل لا المباهاة بمحاربة جماعات الإسلام السياسي أو عدم تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية كما الحال في سوريا وتونس على سبيل المثال، وبالتالي فإن الحديث عن اجتزاء مفهوم بعينه – دون غيره – من هذا التسلسل سيفضي إلى نموذج شائه يعيد إنتاج التخلف بدلا من معالجته.
إذن، فالحديث عن الخيار العلماني يعني في محصلته النهائية: الاستقلال المتبادل بين المؤسستين السياسية والدينية وعدم الخلط بين المعايير الدينية والمعايير السياسية، الشعب هو مصدر المشروعية الوحيد للنظام السياسي وصاحب الحرية في تحديد موقفه من المؤسسة الدينية – والدين – دون إكراه، ويتألف هذا الشعب من أفراد.. وكل فرد (مواطن) له حقوق وواجبات متساوية مع غيره دون تمييز ودون حاجة الانتماء إلى قبيلة أو إقليم أو حزب أو مؤسسة أو طائفة.. ومن أهم هذه الحقوق: الحق في الحرية والحياة.. المساواة أمام القانون.. حرية التفكير والضمير والتعبير.. وفي مقابل هذه الحقوق على المواطن واجبات أهمها: موالاة النظام السياسي واحترام القانون وتفويض النظام باستخدام الإكراه المشروع، ومجموع هذه الحقوق والواجبات يعبر عنه من خلال عقد (دستور أو نظام أساسي للحكم) بين المواطن وبين المؤسسة السياسية التي يجب أن تتسم بالفصل بين السلطات الثلاث وتداول السلطة والخضوع للمراقبة والمحاسبة.. على أن يكون المواطن هو صاحب الكلمة الأولى في التداول والمحاسبة عبر “المشاركة الشعبية” التي هي الأصل في العملية السياسية ومحورها.
لذلك، فالدولة الحديثة بطبيعتها لا يمكن إلا أن تكون علمانية، والحديث عن استكمال بناء الدولة ومؤسساتها أو إصلاحها – من وجهة نظري – يعني الاقتراب من مفهوم العلمانية، أما الابتعاد عن نوايا الإصلاح وبناء المؤسسات يعني – أيضا – الابتعاد عن العلمانية.
والدولة كمفهوم، ليس وليد الثقافة الإسلامية أو العربية، وحتى الإصلاحات التي أدخلها الخلفاء على دولة المسلمين.. أتت اقتباسا أو تقليدا لنموذجي الفرس والروم، وبالتالي لا يعيب الحاكم المسلم في هذا العصر اقتباس منظومة الحكم الغربية وإجراءاتها خصوصا وأن الدين الإسلامي لا يحمل في مصادره الأصلية نظرية سياسية تحدد مواصفات الحاكم وشروط تعيينه وعزله أو تقدم منهجية واضحة لصنع القرار السياسي.
ويعزز هذا الاتجاه أن العلمانية ليست دينا، وليست في مواجهة الدين، لأنها ولدت علاجا للحروب الدينية في أوربا بالقرن السادس عشر انتصارا لحرية الاعتقاد وإنقاذا لكيان الدولة، ويشرح هذه النقطة د. رقيق عبدالسلام: “العلمانية السياسية، بما هي فصل الكنيسة عن الدولة لم تكن خيارا أيديولوجيا بقدر ما كانت حلا إجرائيا فرضته الصراعات الدينية في حالة تاريخية كانت مطبوعة بالتصدع والأزمات الخانقة بما جعل من غير الممكن تأسيس الاجتماع السياسي والثقافة العامة على أساس وحدة الدين، وقد اقتضى ذلك إعادة بناء التفكير الديني على ضوء الموازنات الجديدة التي أفرزتها هذه الحروب الدينية”، ونستنتج من السياق التاريخي للعلمانية بأنها حاجة للدول ذات الدين الواحد – بسبب تعدد تفسيرات الدين – وللدول ذات الأديان المتعددة على السواء.
العلمانية أقرب إلى الصدام مع بعض رجال الدين، وتحديدا.. أولئك الذين يحتكرون تفسير الدين ولا يرون للآخرين – وإن كانوا رجال الدين أيضا – حقا في أن يحملوا تفسيرهم الخاص.. وتتصادم الدولة العلمانية – كذلك – مع كل رجل دين يعتقد بتميزه عبر سلطة سياسية أو وصاية ثقافية واجتماعية أو قوة إكراه على المواطنين لمجرد دوره الوظيفي دون قبول المواطن أو رضاه.. خصوصا وأن قوة الإكراه المشروعة محتكرة في يد الدولة وحدها.
الدولة العلمانية، وحين تتصور أغلب جماعات الإسلام السياسي أنها موجهة ضد الإسلام تحديدا، لا يلاحظون قيادة حزب إسلامي (العدالة والتنمية) لتركيا أعتى الدول علمانية في العالم الإسلامي، ولا يدركون أن حضارة المسلمين مكون أساسي في الفكر العلماني، وهنا نستشهد بمحمد جابر الأنصاري الذي كتب في صحيفة (الحياة) بتاريخ 21 أبريل 2010: “ولكن بحكم نشوء قوى (مدنسة) أو (دنيوية) – بالنسبة للكنيسة – في الفكر والمصالح والحياة، وهي قوى (للمفارقة العجيبة) تنامت مع تأثر أوروبا بالمعطيات العلمية للحضارة الإسلامية، فقد اسهم هذا التأثير العلمي للمسلمين في رفد تلك القوى الأوروبية الصاعدة وتحرير عقولها من السطوة الكنسية لترفع في وجهها مطلب (العلمانية)”، ومن قبله نلاحظ في نتاج محمد عابد الجابري حرصه – في أكثر من مؤلف – على التأكيد على المرجعية الإسلامية لأفكار علمانية مثل العقد الاجتماعي وتأثر فلاسفة التنوير والإصلاح الديني في أوربا بالحضارة الإسلامية والقرآن الكريم.
قد تستشهد تيارات الإسلام السياسي بممارسات في دول علمانية لتكريس التصور الشائع والخاطئ بالعداوة بين العلمانية والدين أو بين العلمانية والإسلام، وهنا من الضروري رفض هذه الاستشهادات – أو وضعها في سياقها الاجتماعي والثقافي– إلا إذا أرادت تلك التيارات اعتبار (طالبان) نموذجا لمشروع الإسلام السياسي!.
في الدول التي ترفع لواء الإسلام السياسي، تعاني الأقليات المسلمة – التي تنتمي لمذهب يختلف عن مذهب الأغلبية – قبل غيرها من اضطهاد وتمييز، ولكن كل هذه الطوائف والمذاهب تحيى في أغلب الدول العلمانية دون شكوى أو تذمر، وبالتالي.. نجزم بأن الدولة العلمانية لا تعادي الإسلام.. ولكنها تتصدى لتسييس الإسلام أو ولاية الفقيه أو احتكار تفسير الدين لتتمتع الأديان والمذاهب – في مجملها – بحرية كبيرة.. ويحقق الفقيه استقلالا صادقا، فإذا كان الفقيه يرى تحليل أو تحريم التدخين أو الاختلاط – على سبيل المثال– فإنه يستطيع أن يعبر عن رأيه – أيا كان – بغض النظر عن مرونة أو تصلب الظرف السياسي، وفي مقابل هذه الحرية، يتاح للمواطن – على الصعيد الشخصي – تطبيق هذه الفتوى أو رفضها، أما إذا أراد الفقيه.. من زاوية أخرى.. أن يبيح قتل دعاة الاختلاط أو ملاك الفضائيات.. أو تعقيم طائفة معينة.. فهنا من الواجب أن تتصدى له الدولة وتنزل به أشد العقوبات.. كونه حرض على عمل إجرامي واعتدى على السلم الأهلي والوئام الاجتماعي.
العلمانية – على كل حال– ليست مطلبا أقلويا بالدرجة الأولى، لأن هدفها الأسمى تحرير النظام الاجتماعي من القيود – لا القيم – وكفالة العدل والمساواة لجميع المواطنين.
حين ينتقل الحديث عن العلمانية إلى السعودية التي قام نظامها السياسي على تطبيق الكتاب والسنة، يعني بكل وضوح، تخصيص قيم مستمدة من الكتاب والسنة أو لا تتعارض معها، أي إقامة العدل وضمان حرية المواطن وحقوقه المدنية وأمنه، أما أساس شرعية النظام فهو رضا المواطن وقبوله بقيام النظام بهذا الدور، وبالتالي.. فإن علمنة النظام الأساسي للحكم.. تعني الإيمان به كعقد اجتماعي حقيقي بين النظام السياسي والمواطنين.
والحديث عن أرض الحرمين في المملكة، من الواجب أن ينتقل من الزاوية السياسية إلى الزاوية الفقهية، بمعنى أن السعودية ليست أرض الحرمين.. إنما فيها أرض الحرمين التي لها احكام خاصة لا يجوز أن تطبق على غيرها مثل أحكام الصيد على سبيل المثال.. وهي خصوصية يجب أن تحترم في كل الأحوال دون تمدد أو تعميم، وإذا كانت هناك مسؤولية معنوية على السعوديين لوجود الحرمين الشريفين في نطاق حدودها.. فلا شك أنها التأكيد على سماحة الإسلام وحضارته وتفاعله مع روح العصر واندماجه مع حقوق الإنسان وحقوق المرأة وتصالحه مع الديمقراطية والمواطنة، ولكننا – للأسف – نشاهد المؤسسة الدينية في السعودية تقوم بالدور المعاكس.. والأمثلة لا حصر لها.. ما ينعكس سلبا على صورة الإسلام في العالم.. ويعيق مسيرة التحديث والتطوير في السعودية.
علمنة القضاء السعودي، تظهر في إزالة الحساسية من مفهوم القانون وتقديمه على مفهوم الفتوى، وإذا استبعدنا الحدود والأحكام التي نص عليها القرآن الكريم فسنلاحظ أن أغلب الأنظمة التي تطبق في المملكة أنظمة وضعية أو لم ينص عليها قرآن أو حديث كنظام الخدمة المدنية أو نظام مجلس الوزراء أو نظام المناطق أو حتى نظام مجلس الشورى حيث لم ترد هذه الأنظمة – وغيرها – في آية كريمة أو حديث شريف، وهنا يحتال البعض بحجة أن هذا النظام – أو ذاك – مستوحى من الكتاب والسنة أو لا يتعارض معها، ولا يدرك هؤلاء أن القانون في قيمه العليا من إعلاء مبادئ الحق والعدل لا يتعارض – أبدا – مع الكتاب والسنة، ولا يمكن أن تقوم الدولة – فقط – على تطبيق الحدود وأحكام المواريث وأداء الزكاة، والالتجاء إلى تقنين الفقه الإسلامي الدليل الأبلغ على هذا التصور.. ويمكن قراءة هذه المحاولة كاحتيال آخر على حتمية الالتفات إلى القانون الوضعي لأن الاجتهادات الفقهية في النهاية نتاج بشري يخضع للصواب والخطأ والتغير، فتشابك مؤسسات الدولة وتعقيد دورها يقتضي الالتجاء – بالضرورة والقطع – إلى القانون الوضعي الذي يجب أن يصوغه المختصون وينال رضا المواطن مع احترام أحكام الإسلام في قوانين الأحوال الشخصية والحدود وفق ضوابط التخيير والتطوير لمراعاة غير المسلمين أو مختلف تفسيرات وتأويلات الدين الإسلامي ومتطلبات الواقع ومستجداته.
علمنة التعليم السعودي، تعني حرية المواطن وحقه في تحديد التعليم الديني الذي يتلقاه أبناؤه كما ونوعا، وهنا يتحرر النظام من التصادم مع الأقليات (الإسماعيلية والشيعة) والتصادم مع المذاهب الفقهية السنية التي لا تدين بالمذهب الرسمي (الحنبلي) كالمالكية في المنطقة الشرقية والشوافع في المنطقة الغربية، وهذا ينطبق على المذاهب العقدية بين الأشعرية والماتريدية والسلفية، ويتوازى مع هذا المنهج إعلاء مكانة العلوم العقلية والدنيوية إلى المقام الذي تستحق في سبيل النهضة والتحضر.
للأسف الشديد، فإن النخبة السعودية انساقت وراء النزعة الشعبوية في ذم العلمانية والتبرؤ منها، لذلك.. فإن هذه النخبة مطالبة بتصحيح تلك الصورة المغلوطة خصوصا وأن العلمانية لم تغب عن الحياة العامة في السعودية عبر التيارات القومية واليسارية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي وتتضح اليوم عبر بعض إسهامات ما يسمى بالتيار الليبرالي.
ومن نتائج التبرؤ من العلمانية.. الحرب (الإعلامية – الثقافية) المشتعلة بين التيارات الفكرية في المملكة، ومن تجلياتها – مؤخرا – الهجوم المتبادل بين الليبراليين والإسلامويين حول الدعوة إلى الاختلاط.. وحول إعلان د. محمد العريفي نيته زيارة القدس.. وتصريحات متعددة للداعية يوسف الأحمد.. وإلصاق تهمة الإساءة للرسول الأعظم بالكاتب يحيى الأمير، وقد سادت في هذه الحروب لغة متردية وعدائية من كافة الأطراف بسبب خشية كل طرف من تبني المؤسسة السياسية لدعوات الطرف الآخر!.
إن الدعوة إلى التفكير في الخيار العلماني بالسعودية لا يعني الرغبة في قهر التيار المحافظ أو الإسلاموي أكثر منه حلا يمنع المحافظين من فرض أجندتهم على الغير، فالدولة العلمانية، هي الدولة الحَكَم التي لا تنحاز لتيار ضد آخر، وفي نفس الوقت، تمنع أي تيار من فرض أجندته على الآخرين، وهذا يستدعي ركيزتين، الأولى : حرية الفرد في اختيار قناعاته وممارسة حقوقه دون أي مثبطات، والثانية.. المساواة بين الأفراد أمام القانون.. وفي الحقوق والواجبات، ومعنى الحياد لا يقترب من سياسة جبر الخواطر (إقالة مسؤول يقترب من الإسلامويين مقابل إقالة مسؤول يقترب من الليبراليين أو إصدار قرار يرضي الليبراليين مقابل قرار يرضي الإسلامويين)، إن معنى الحياد يتجسد في التزام الدولة بتأمين حقوق مواطنيها في الحياة والاعتقاد والتعبير.. والتفريق بين مفهوم الحق ومفهوم الخير قبل التفريق بين مفهوم الخير ومفهوم الشر، فالحقوق متفق عليها.. ويفترض أن ينص عليها “الدستورأو النظام الأساسي للحكم” و”القانون” والمواثيق والمعاهدات الدولية، أما “الخير” – وإن كان يستظل بالحق – يبقى مفتوحا لتفسيرات متباينة و تطبيقات عدة تختلف من زمن وآخر.. ووجهة نظر وأخرى، بمعنى أن الحقوق تقترب من الثبات وتضمن العدل.. بينما يقترب الخير من التغير والتقلبات ويضمن التنوع.
وكما أنه ليس هناك أي تعارض بين العلمانية والإسلام، لا أجد تناقضا بين العلمانية والنظام الملكي، فالنظام الملكي في مصر – قبل الثورة – كان نظاما علمانيا، والنظام الشاهنساهي السابق في إيران هو الآخر علماني، وكلها ملكيات فاعلة – وليست صورية – نضيف إليها الحكم الملكي في الأردن والحكم الملكي في المغرب (نص دستورا الأردن والمغرب على أن الامة هي مصدر الشرعية والسلطة، وسيادة القانون، والفصل بين السلطات)، وهذه الإشارات تستلزم التنويه إلى خطأ شائع يتمثل في اصطلاح دين الدولة أو الفرد العلماني، فالعلمانية صفة تطلق على الدولة وحدها – وهذا رأي د. عبدالوهاب أبو سليمان عضو هيئة كبار العلماء في السعودية – وفي المقابل لا دين إلا للأفراد، فالدولة جهاز مثلها مثل أي جهاز آخر – لا يصلي ولا يصوم ولا ينطق بالشهادتين– ولم أسمع يوما عاقلا يصف المصعد أو الوعاء بأنه ينتمي إلى دين معين!.
إن شيوع صورة نمطية (سلبية) عن العلمانية في السعودية واضح ومبرر لظروف نشأة الدولة وموقع رجال الدين اجتماعيا وثقافيا وسياسيا، لذلك فالمطلوب معالجة هذه الصورة من منظار البحث قبل منطق التبشير، والوصول إلى السياق المأمول يتحقق باستكمال مشروع إصلاح وتجديد الخطاب الديني الإسلامي باتجاه تصالح حقيقي مع المدنية والمواطنة وسيادة القانون والحرية وحقوق الإنسان وحقوق المرأة وإعلاء قيمة العقل والمنهج العلمي، ولعل الخطوة الأولى تكمن في تأمل أصول الإسلام التي أوردها الإمام محمد عبده في كتابه (الإسلام دين العلم والمدنية): النظرة العقلية في تحصيل الإيمان، وتقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض، والبعد عن التكفير، ومودة المخالفين في العقيدة، وقلب المؤسسة الدينية والإتيان عليها من أساسها، والجمع بين مصالح الدنيا والآخرة، وحماية الدعوة، والاعتبار بسنن الله في خلقه وتجارب الأمم الأخرى.
____________________________________