هل يسقط النظام الطائفي في لبنان؟
المستقبل اللبنانية
2011 الإثنين 4 أبريل
محمد السماك
رفع شباب مصر شعار “الشعب يريد إسقاط النظام”. وسرعان ما انتشر هذا الشعار في العالم العربي من المحيط إلى الخليج انتشار النار في الهشيم. غير أن الدولة العربية الأحق برفع هذا الشعار هو لبنان. ذلك ان النظام الطائفي المعتمد فيه لا مثيل له في أي دولة أخرى في العالم.
نشأ هذا النظام في العهد العثماني، وتحديداً في فترة ترهل الامبراطورية وتحولها إلى “رجل أوروبا المريض”. فقد بلغت الامبراطورية من الضعف إلى حد اضطرت معه إلى الاستجابة إلى الطلبات الابتزازية للدول الأوروبية. وكان من هذه الطلبات الادعاء بحق حماية الأقليات المسيحية. وهو الادعاء الذي صنع ما يعرف بـ”المشكلة الشرقية” أي مشكلة مسيحيي الشرق. وبذلك تولت فرنسا حماية المسيحيين الموارنة، وأعطت روسيا القيصرية لنفسها حق حماية المسيحيين الارثوذكس، والنمسا حماية الكاثوليك.. أما بريطانيا الانكليكانية، فلحقت بالركب في وقت لاحق، إذ انها بعد أن منحت اليهود بموجب وعد بلفور 1917 وطناً قومياً في فلسطين، أصبحت أحد أطراف لعبة حماية الأقليات الدينية في المنطقة.
كرس هذا الواقع القانون الذي كان قد صدر في 18 شباط / فبراير 1858 عن السلطان العثماني والذي يعرف بـ”الخط الهمايوني”. وبموجب هذا القانون أصبحت الدول الأوروبية تمارس دور حماية الأقليات المسيحية بموافقة من السلطان العثماني وبموجب قانون همايوني !!
بعد سقوط الامبراطورية العثمانية تولى الانتداب الفرنسي على لبنان مواصلة هذه السياسة. وكرسها دستورياً أيضاً.. ولكنه نقل إلى الأقليات الدينية، التي أصبحت طوائف، مسؤولية ادارة شؤونها الذاتية بنفسها. حتى ان عصبة الأمم أقرت هذا التنظيم الطائفي في وثيقة صدرت عنها في تموز /24 يوليو من عام 1922.
ثم جدد تكريس الدستور اللبناني الأول الذي صدر في عام 1926 هذا الواقع الطائفي وكان لبنان لا يزال تحت الانتداب الفرنسي. فقد أعطى الدستور الأول الطوائف الدينية حق ادارة شؤونها الاجتماعية والعائلية والتعليمية من دون أي تدخل من الدولة.
استمر هذا الوضع حتى بعد استقلال لبنان في عام 1943 وأصبح يشكل الاساس الذي يقوم عليه نظامه السياسي وتقاسم السلطات. ورغم ان الدستور لا يتضمن نصاً بذلك، الا ان الأعراف (التي لها قوة دستورية) تقول اليوم بتوزيع الرئاسات على الطوائف على الشكل التالي :
رئيس الجمهورية مسيحي ماروني.
رئيس مجلس النواب مسلم شيعي ونائبه مسيحي ارثوذكسي.
رئيس مجلس الوزراء مسلم سني ونائبه مسيحي ارثوذكسي.
أما مجلس النواب فانه يكون مناصفة بين المسلمين والمسيحيين، على أن يتقاسم النصف المخصص للمسلمين كل من السنة والشيعة والدروز والعلويون، وأن يتقاسم النصف المخصص للمسيحيين كل من الموارنة والارثوذكس والكاثوليك والأرمن.. إضافة إلى الأقليات المسيحية الأخرى، ومنها السريان والانجيليون والكلدان والأشوريون.
كذلك فان المناصب الادارية العليا تحترم هذه المناصفة الطائفية – المذهبية وتلتزم بها، وذلك استناداً إلى الدستور اللبناني نفسه، كما تنص على ذلك المادة 95 منه، علماً أن قائد الجيش اللبناني وحاكم البنك المركزي يكونان حكماً ودائماً من المسيحيين الموارنة.
هذا يعني ان الديموقراطية في لبنان متعددة السقوف. فالدرزي مثلاً، بموجب النظام الطائفي لا يستطيع أن يطمح بأن يكون رئيساً للدولة أو للحكومة أو لمجلس النواب، أو حتى نائباً لأي منهم. وان أقصى طموحاته هو أن يكون وزيراً. وكانت هذه عقدة الزعيم الراحل كمال جنبلاط الذي كانت كفاءاته العلمية والفكرية والسياسية تتجاوز السقف المنخفض الذي يفرضه النظام الطائفي على طائفته!
غير ان لهذا النظام جانباً إيجابياً. وهو انه يشجع كل طائفة على تطوير مؤسساتها الاجتماعية والعلمية. وعندما انهارت الدولة وتعطلت مؤسساتها خلال الحرب الأهلية (1975-1990)، تولت المؤسسات الأهلية التابعة للطوائف المختلفة تقديم الخدمات الصحية والتعليمية والاجتماعية. ولذلك فان الصيغة التي يكاد لبنان يتفرد بها هي أن المجتمع اللبناني هو أقوى من الدولة. فالمواطن يعتمد على الخدمات التي تقدمها له المؤسسات الطائفية أكثر من اعتماده على الخدمات التي توفرها مؤسسات الدولة.
ورغم ان هذا النظام الطائفي اعتبر نظاماً موقتاً منذ الاستقلال، كا جاء في البيان الوزاري لأول حكومة استقلالية برئاسة رياض الصلح، فان هذا المؤقت يتمتع بقوة الاستمرار. بل انه يكاد يصبح احد اكثر الثوابت التنظيمية رسوخاً. فالدستور الذي جرى تعديله في عام 1990 على قاعدة اتفاق الطائف يعطي رؤساء الطوائف الدينية حق الطعن في القوانين أمام المجلس الدستوري. وهو حق يتمتع به عشرة على الاقل من أعضاء المجلس النيابي.
وفي كل مرة يجد لبنان نفسه غارقاً في دوامة أزمة سياسية، لا يجد مخرجاً منها إلا بإضافة سابقة جديدة تكرس النظام الطائفي. وهكذا ابتدعت في مؤتمر الدوحة 2009 نظرية التوافق على حساب الديموقراطية في التصويت. وبموجب هذه النظرية التي تعطي الطوائف عملياً حق الفيتو، لم يعد ممكناً اقرار أي تنظيم أو اتخاذ أي موقف سياسي ما لم تتوافق عليه كل الطوائف.
حاول رئيس الجمهورية الأسبق الياس الهراوي فتح ثغرة في النظام الطائفي من خلال تشريع الزواج المدني. والزواج المدني شرعي بموجب القانون اللبناني اذا عقد خارج لبنان (في قبرص أو في أي دولة غربية أخرى) ولكنه يصبح غير شرعي اذا عقد في لبنان. ولذلك قضت المحاولة بوضع نص يقول بشرعية عقود الزواج الاختيارية، دينية كانت أو مدنية. غير ان تلك المحاولة باءت بالفشل.. فقد رفضها المسلمون على خلفية احترام القواعد الشرعية المتعلقة بالإرث والحضانة.. ورفضها المسيحيون على خلفية مبدئية تعتبر الزواج سراً كنسياً لا يصح خارج الكنيسة. علماً أن المسلمين والمسيحيين اللبنانيين يتزوجون مدنياً في دول المهجر ويسجلون عقودهم لدى القنصليات والسفارات اللبنانية المنتشرة في هذه الدول.
من أجل ذلك يشكو اللبنانيون من مساوئ هذا النظام. ويكادون يجمعون على ادانته والتشهير به، وهم الذين نادراً ما يجمعون على أمر. ولكن عندما تطرح مبادرات لإعادة النظر فيه أو لتعديل بعض مواده، ترتفع علامات الاستفهام المعطلة.
لقد نص اتفاق الطائف الذي هو في مستوى وثيقة وفاق وطني على تشكيل هيئة عليا لإلغاء الطائفية السياسية. ولكن رغم مرور 22 عاماً على صدور هذه الوثيقة، فان مجرد طرح مبدأ تشكيل الهيئة يكهرب الجو العام ويطعن بسلامة نوايا أصحابه.
واستقواء بالانتفاضات الشبابية العربية التي تطالب بالتغيير في معظم الدول العربية ـ بل فيها كلها ـ تحت شعار “الشعب يريد إسقاط النظام” تحركت قوى شبابية في لبنان تدعو إلى إسقاط النظام الطائفي.. وإلى اعتماد نظام مدني بدلاً منه، على قاعدة احترام الأديان والحريات الدينية.
غير ان صدى هذه الأصوات ـ خلافاً لما يجري في الدول العربية الاخرى ـ تخنقه مواقف المتضررين الذين يعرفون كيف ومتى يدقون أجراس الكنائس ويرفعون مكبرات الصوت في مآذن المساجد.