أفول "بدر" لم يكتمل بعد....

 

بقلم: سليم نصار

 بيروت في 23/9/2009

 

أفول "بدر" لم يكتمل بعد...

   كلما ذكرت سيرة سماحة الإمام المغيّب موسى الصدر، لا بد أن يقترن اسمه باسمين عزيزين هما: الزميل عباس بدر الدين والشيخ محمد يعقوب.
والحق يقال إن المسار الشخصي الذي اتخذه الزميل عباس، كان مساراً واعداً بسبب عمله الجدي وشوقه إلى إحداث اختراق ظاهر في عالم الصحافة اليومية. وقد تعلم بالاختبار كيف يغنم الكثير من الوسط الجنوبي الذي نقله إلى بيروت مع الحبر والورق والمعاناة الطويلة.
وأذكر جيداً أن الزميل عباس عرف كيف يدشن نشاطه في الصحافة المحلية عن طريق إبراز اهتمامات أهل الجنوب وهمومهم اليومية، وكان مؤمناً بأن المعلومات التي ينشرها عن المنطقة التي ولدت فيها "حركة المحرومين"، كافية لتنبيه الدولة إلى قصورها وعجزها. لذلك حرص دائماًَ على تقديم خدماته الصحافية المشوقة بأسلوب موضوعي خال من المبالغة والانحياز.
كانت الصحف اللبنانية تعتمد في أخبارها المحلية على مخبريها، وعلى ما تقدمه لها نشرة "الوكالة الوطنية للأنباء". ومن أجل ملء الفراغ الإعلامي، قرر الزميل عباس القيام بمغامرة محسوبة انتهت بإصدار وكالة مستقلة للأنباء وجدت طريقها فوراً إلى مكاتب التحرير. وكان هدفه من وراء تلك الخطوة الرائدة، إتاحة الفرصة أمام زملائه، بأن يختاروا بين نشرة رسمية وأخرى مستقلة أكثر موضوعية وتجرداً.
على العموم، ترتبت على النقلة النوعية التي أقدم عليها الصديق عباس، سباق بين الزملاء على جمع الأخبار، الأمر الذي اعتبرته نقابة الصحافة تنافساً صحياً في بيئة شغلها الإمام موسى الصدر بنشاطاته وخطبه. وفي وسط تلك البيئة الديناميكية تطورت وكالة الأنباء بحيث أصبح دورها مرادفاً للعمل المهني الصحيح.
ومع أن عباس كان قريباً جداً من سماحة الإمام موسى الصدر، إلا أنه لم يخلط يوماً بين عواطفه الشخصية وعمله المهني. لذلك حافظ على الرصانة والمصداقية وكل المرتكزات الإعلامية التي تستهوي القراء. كما حافظ على الاستجابة لحاجات المهنة وسباقها المحموم. وقبل أن يستكمل مشروعه، شدته دعوة الإمام موسى الصدر الذي زار ليبيا تلبية لدعوة من الرئيس معمر القذافي. ولمن لا يتذكرون تلك الرحلة المشؤومة، لا بد من مراجعة تفاصيلها ولو باختصار شديد.

بدأت الرحلة يوم 25 آب (أغسطس) من سنة 1978.
وفي ذلك اليوم بالذات تسلم علي غندور، رئيس مجلس إدارة شركة "عاليه" – الطيران الأردني – رسالة من سماحة الإمام الصدر يبلغه فيها أنه سيتوجه إلى عمان تلبية لدعوة الملك حسين، فور انتهاء زيارته القصيرة لليبيا.
وفي 30 آب أعطى الإمام حديثاً صحافياً لمراسل مجلة "النهضة" الكويتية، شرح فيه مأساة أهل الجنوب الذين وضعتهم الأحداث على خط النار.
وفي اليوم التالي – أي في 31 آب – شوهد الإمام موسى الصدر محاطاً بعدد كبير من اللبنانيين الذين يعملون في الجماهيرية، وودعهم فرداً فرداً على باب الفندق قبل أن تنقله إلى خيمة القذافي سيارة رسمية سوداء اللون. واعترف مودعوه أنهم أبصروه آخر مرة في ردهة الفندق قبل أن تخطفه الإشاعات وتطير به إلى أماكن قصية مجهولة.
مرت على حادث الاختفاء ستة أيام توقفت خلالها الصحف المحلية عن ذكر أي خبر عن سماحة الإمام وصحبه. ثم ازدادت حال البلبلة والضياع والصمت المريب يوم ظهر القذافي في عيد الثورة (الفاتح من سبتمبر) من دون أن يكون إلى جانبه على المنصة سماحة الإمام. علماً بأن الدعوة التي وجهت إليه ذكرت صراحة بأن الغاية منها المشاركة في عيد الثورة.
عندما بلغ الصمت هذا المستوى من التجاهل المطلق، دخلت الدولة اللبنانية والمجلس الشيعي الأعلى، للحصول من السفارة الليبية في بيروت، على جواب شاف حول عملية التغييب التي وصفتها العواصم الكبرى بالاختطاف أو الاعتقال.
في العاشر من أيلول، أصدرت السفارة الليبية بياناً مقتضباً ذكرت فيه أن سماحة الإمام وصحبه غادروا ليبيا يوم 31 آب، على متن طائرة "أليطاليا" رقم 881.
يوم 17 أيلول صدر عن وزارة الخارجية الليبية بيان رسمي، تدّعي فيه أن الإمام الصدر غادر ليبيا بناء على طلبه، وأنه كان خلال الزيارة موضع تكريم وترحيب من قبل الرئيس معمر القذافي.
وفجأة، انتشرت عقب صدور ذلك البيان، إشاعات مختلفة بهدف زرع البلبلة والشكوك. بعضها زعم أنه شوهد في أمستردام، في حين ذكرت إشاعة أخرى أنه عاد إلى "قم" للمشاركة سراً في حملة طرد شاه إيران!
ذكرتُ بعض وقائع عملية التغييب المريب، كي أنفض غبار الذاكرة عن حادثة غامضة جرت منذ ثلاثين سنة ذهب ضحيتها سماحة الإمام السيد موسى الصدر والزميل الأستاذ السيد عباس بدر الدين وفضيلة الشيخ محمد يعقوب.
ومن المفيد التذكير بأن الصديق الغالي عباس، دفع حياته ثمناً لواجبه المهني، مثله مثل العشرات من الزملاء المراسلين الذين فقدوا في فيتنام وكمبوديا وكوسوفو والعراق. مع فارق أساسي هو أن اختفاءه لم يكن في ساحة الحرب، وإنما في ساحة العمل حيث توقع أن تتاح له الفرصة الكاملة للمحافظة على مهنته وكرامته وحياته...