الرئيسية / News / Latest / العلمنة

العلمنة

 تأملات حول مقالة ميشيل كيلو عن العلمانية

لا تقلّ المسيحية الغربية وطأةً على المجتمع عن الإسلام، لكن الأشكال مختلفة

د. جورج قرم
جريدة السفير السبت 25 أيلول 2010 – العدد 11701

نشكر الأستاذ ميشال كيلو على تعلـيقه المفصَّل حول مقالي المنشور في النسخة العربية للمــوند ديبــلوماتيك في آذار 2010 والذي صدر في جريدة السفير بتاريخ 20 أيلول 2010 تحت عنوان «حوار مع جـورج قرم عن العلمانية، ما معنى افتقار الإسلام إلى كنيسة وفيه سلطة أشد وطأة؟».

إنَّ مقالي هذا لم يكن يهدف إلى إعطاء لمحة تاريخية كاملة تقارن بين مسار الديانتيْن الإسلامية والمسيحية، ولا إلى إجراء مقارنة بين نفوذ الديانتيْن في العالم المعاصر. هذا ما فعلْتُه في مؤلفيْن سابقيْن لا بدَّ من أن يكون الأستاذ ميشال كيلو قد اطلع عليهما. فالمؤلَّف الأوَّل هو تعدد الأديان وأنظمة الحكم الذي صدر عام 1999 لدى دار النهار في بيروت وكانت له طبعات متتالية؛ أما الثاني فهو بعنوان المسألة الدينية في القرن الواحد والعشرين الذي صدر في بيروت لدى دار الفارابي في عام 2007. كما لا بدَّ من أن يكون قد اطلع على الدراستيْن اللتيْن نشرْتُهما في مجلة الآداب البيروتية: الأولى بعنوان «ملاحظات منهجية للتعامل مع مفهوم العلمانية في الإطار العربي» (الصادر بتاريخ 10/11 تشرين الأول ـ تشرين الثاني 2007، العدد 55)، والثانية بعنوان «حول الإصلاح الديني في العالم العربي والإسلامي» (نص مقابلة بتاريخ 4/5/6 نيسان ـ حزيران 2009، العدد 57).

أما مقالة الموند ديبلوماتيك فهيَ في الحقيقة ملخَّص مختصر جداً عمَّا أتى في الدراستيْن المذكورتيْن أحذِّر فيهما المثقفين العرب المتأثِّرين إلى درجة كبيرة بالثقافة الأوروبية وأدبياتها «الديموقراطية الطابع» من استيراد الإشكاليات الفلسفية والسياسية للثقافة الأوروبية عشوائياً وتطبيقها على الأوضاع العربية أو الإسلامية دون فحص نقدي لمدى ملاءمتها في المسار التاريخي للمجتمعات العربية. ومنذ سنوات عديدة أُلاحظ تنامي تبنّي إشكاليات فلسفية وتاريخية نابعة من الثقافة الأوروبية والأمـيركية دون نقدها أو السعي إلى اختيار ما يناسب الأوضاع العربية فيها. وقد لاحظْتُ أيضاً أنَّ أدبيات الحركات السلفية الإسلامية المتشددة وكذلك أدبيات الحركات التكفيرية، المستلهَمة من أعمال سيّد قطب في مصر أو من أعمال المودودي في باكستان، متأثِّرة بدورها إلى حدٍّ بعيد بإشكالية الرومنطيقية الأوروبية التي اخترعت الحيْرة بين الأصالة والحداثة؛ وهذه الإشكالية تحوَّلت إلى معارك فلسفية سياسية كبيرة في أوروبا وجـوارها (وخاصة روسيا)، وهي إشكالية استوردت في مجتمعاتنا العربية لما تعبِّر عنه من عواقب فقدان الاتصال بالروحانيات والماورائيات، وكذلك الحيرة أمام التطورات المجتمعية المتسارِعة التي تنتج الحنين إلى سلطة الدين في التنظيم المجتمعي وفي الحفاظ على التراتبية التـقليدية الاجتماعية. وهذا ما قمْتُ باستعراضه بشيء من التفصيل في مؤلَّف جديد سيصدر قريباً في بيروت تحت عنوان «من موزرت إلى هتلر ماذا حصل: تاريخ أوروبا وبناء أسطورة الغرب».

إنَّ السلفيات الدينية العربية المعاصِرة على غرار ما فعله العديد من كبار الأدباء والفلاسفة الأوروبيين المعادين للثورة الفرنسية ومبادئها التحررية، تقع في نفس المنهج التخيُّلي الذي يعظِّم الماضي إلى أقصى الدرجات لتوبيخ الحاضر، ولحث كل الساخطين على فقدان العدل والاستقرار على القيام بثورات مضادة لمبادئ فلسفة التنوير والثورة الفرنسية، وكذلك كل ما أتت به النهضة العربية التي انطلقت وازدهرت خلال قرن كامل ونجحت في إحداث تغيير كبير في حياة الشعوب العربية من حيث بداية تحديث العلاقات الاجتماعية ومؤسسـاتها ونهضة اللغة واستيعابها التطورات العملاقة الحاصلة في العالم وممارسة الفكر النقدي حتى في أمور العقائد والممارسات الدينية الجامدة.

أنا لن أناقش هنا كل المعلومات التاريخية القيِّمة التي أتى بها الأستاذ ميشال كيلو حول تاريخ العلاقة بين سلطة الكنيسة والسلطات المدنية المختلفــة في أوروبا، فهـي كما هو واضح من محتوى التعليق، كانت متموِّجــة باستمرار وخاضعة لحــركة مد وجزْر، وقد استمرّت على هذا النحو إلى أن أتت الثورات البروتستانتــية المختلفة والمتــنوعة في اتجاهاتها السياسية لتقلّص من حيّز سيطرة الكنيسة في أوروبا، وأتى بعد ذلك انتصار مبادئ فلسفة التنوير والثورة الفرنسية بالتدريج في كل أوروبا ليسبّب تراجعاً إضافياً متصاعداً. إنَّما المهم هنا، بغض النظر عن تموّجات العلاقة بين السلطة الزمنية والسلطة الروحية في تاريخ أوروبا المسيحية، إبراز أهمية المؤسسة الكنــسية وسطوتها على تنظيم كل تفاصيل حياة المجتمعات الأوروبية ـ وهذا ينطبق أيضاً على المجتمعات التي اعتمدت إحدى الكنائس البروتستانتية القائلة بالفصل بين مجتمع رجال الدين والمجتمع المدني، كمرجعية دينية، وأدخلت بذلك المقدّس في صلب حياة المجتمع. وقد بقـيت سطوة الكنــيسة الكاثوليكية على المجتمع قوية في كل دول جـنوب أوروبا حتى نصف القرن العشرين؛ ناهيك عن سطــوة الولايات المتحدة التي تـصف نفســها بأنَّها «أمة من المؤمنين»، والتي رأت في أراضي القارة الأمـيركية «أرض ميعاد» جديدة وهبها إليها الله وأوكلها مهمة إبادة السكان الأصليين لها.

أما في المجتمعات الإسلامية، فأنا لا أزال على قراءتي التاريخية بأنَّ فئة العلماء كانت دائماً تحت سيطرة الحكم المدني إلا باستثناءات قليلة، حيث كان العلماء والجوامع معاقل ضد استبداد مفرط من قبَل حاكم هنا أو هناك. وسأكتفي هنا بذكر ما قام به الحكم الصفوي في إيران التي كان يسود فيها آنذاك المذهب السني، عندما عمل على نشر المذهب الشيعي واعتماده سياسياً كمذهب رسمي للحكم في إطار مواجهاته المتواصلة والدامية مع السلطنة العثمانية. وأنا على اطلاع على الأدبيات الغربية التي ضخَّمت أهمية ظاهرة اللجوء إلى العلماء ضـد جور الحكم، وهي أدبيات نمت نمواً كبيراً عندما بدأ توظيف الدين في مناهضة الشيوعية ونفوذ الاتحاد السوفياتي في أوروبا الشرقية كما في دول العالم الثالث، حيث استعـمل هذا التوظيف في الوطن العربي لمكافحة المد القومي العربي بألوانه المختلفة والمعبِّرة جميعها عن مناهضة الإمبريالية الغربية. وهذا ما أثَّر كثيراً على العديد من المثقفين العرب، بحيث ذهبوا إلى اعتماد مقولة غربية عجيبة، تدَّعي أنَّ كبار شخصيات النهضة العربية، بمن فيهم العلماء الأجلاّء مثل محمد عبدو وعبد الرحمن الكواكبي وأحمد أمين وطه حسين، كانوا قد أخذوا المسلمين إلى موقع ليس موقعهم، وكانوا يكتبون ويفكرون حصرياً تحت تأثير الحداثة الأوروبية الاستعمارية الطابع، بينما ما يمثِّل الأصالة الإسلامــية والعربية هو الفكر الديني التقليدي والموروث الذي يجب أن يُعيد سيطرته على المجتمع كمدخل لا بدَّ منه لمحاولة نشر ديموقراطية ليبرالية.

وربما ما لفت انتباهي في مقال الأستاذ ميشال كيلو غياب ذكر ظاهرة عودة توظيف الدين في ظروف الحرب الباردة وكذلك العمل الأميركي الدؤوب على استثارة المشاعر الدينية في العالم كله، للتخلُّص من نفوذ الأحزاب الشيوعية المتنامية، خاصةً بعد الحرب العالمية الثانية، في أوروبا كما في دول العالم الثالث، وذلك بهدف زعزعة مكانة الدولة السوفياتية في العالم الثالث وهيمنتها وقبضتها القوية على دول أوروبا الشرقية وكذلك زعزعة حكام دول عدم الانحياز المناهضين لها. وهذا ما أدى إلى إعادة ظهور المظاهر الدينية في أوروبا الشرقية (وخاصة في بولونيا) للتعبير عن السخط تجاه هيمنة الاتحاد السوفياتي على مصير تلك الدول والى صعود الحركات الدينية ـ السياسية في العالم العربي والإسلامي.

وفي هذا المضمار، إذْ لا أنفي إساءة تصرُّف الأنظمة العسكرية العربية التي كانت قد تبنَّت القومية العربية المنفتحة حضارياً والمتفاعلة مع الثقافات والإيديولوجيات السائدة في العالم حينذاك، في موضوع الحريات العامة، وخاصة تجاه الحركات الدينية المتشددة التي كانت تكفّر الحكام بسبب تطوير هؤلاء، في نظرها، العلاقات مع الاتحاد السوفياتي الملحد وإدخالهم الاشتراكية في بلدانهم. غير أنَّ هذه الظروف السياسية لم تشكِّل سبباًَ وجيهاً لما تمّ من جهود ثقافية ـ سياسية للقضاء على التراث الحديث للنهضة العربية وإخضاعه لعملية طمس وتهميش عملاقة، لكيْ يحل محلّه الفكر التبسيطي للتيارات الدينية المتشددة والمعتمِدة على نظرة تخيُّلية غير تاريخية لما يجب أن تكون المجتمعات الإسلامية عليه.

وكما هو معلوم، فإنَّ تلك الحركات أصــبحت تكــافح بشدة كل أنواع القومية العربية العلمانية الطابع باستبدالها بأيديولوجيا قومية إسلامية مقفلة، أدَّت إلى انبثاق حركات عبــثية إرهابية تقتــل الآلاف من المسلمين في العراق وأفغانستان وتقوم بعمــليات إرهابية فتّاكة ضد المدنيين في كل من مصر والأردن ولبنان والجزائر والمغرب واليمن واندونيسيا وباكستان. ولا حاجة هنا إلى التذكير بمصادر تمويل تلك الحركات، خاصةً تلك التي نمت نمواً كبيراً بعد غزو أفغانستان من قبــَل الجيش السوفياتي. فقد شكَّلت هذه الخطوة لعبة سياسية دولية لا تزال قائمة حتى يومنا هذا على خلفية طروحات قديمة تدَّعي العداء الأبدي السرمدي بين الشرق والغرب، أو بين الإسلام والمسيحية، كما قام بتجديدها الباحث الراحل صمويل هانتينغتون بطرحه مقولة صراع الحضارات ولا يزال ينشرها الباحث المستشرق الصهيوني الهوى برنارد لويس.

والجميع يعلم أنَّ العديد من الأنظمــة العــربية دخلت في المخططات الأميركية والصهــيونية بإثارة المشاعر الدينية عبر إبراز صورة متشددة للديـانة الإســلامية تسيء إلى المسلمين وتثير منذ مدة التـوتر والعداء بين السنّة والشيعة. وقد أضعف هذا التحرُّك في نهاية المطاف كل المجتمعات العربية، وأدى إلى تزايد سطوة الحكّام العرب على شعوبهم، وهم في أغلب الأحــيان يلهمون، حسب الظروف والمآرب، هذه أو تلك من الفتاوى المتشددة أو الأقل تشدداً، التي تظهر هنا وهناك كما يشجعون على الوجود المكثَّف لمراجع دينية في الإذاعات والتلفزيونات العربية.

وفي نظرة أشمل، تعتمد على قراءات متعمِّقة لآليات وديناميات الديانات التوحيدية الثلاث، أيْ اليهودية والمسيحية والإسلام، المتفرِّعة كل واحدة عن الأخرى، فإنَّ تأسيس حرية الإنسان لا يمكن أن يتم إلا عبر حرية التعامل مع النص المقدَّس والاجتهاد فيه، بلْ وأيضاً بالتأويل. فهذه هي أم الحريات في الديانات الثلاث. ولذلك أركِّز على هذه النقطة بالذات لأنَّ في المجتمعات التي تدين بهذه الديانات الثلاث لا حرية للإنسان عندما لا يُسْمَح له باستعمال عقله ورشده في فهم دينه وممارسته. وقد عرفت الحضارة الإسلامية روْنقها في كل الميادين الأدبية والفلسفية والعلمية والدينية عندما كانت هذه الحرية قائمة وأنتجت مِللاً ونِحلاً مختلفة في فهم النص المقدَّس. وقد دخلت أوروبا المسيحية عصر النهضة ثم عصر التنوير عندما بدأت قراءة النصوص المقدَّسة بشكل مستقل عن التفسير المهيْمن لها بحيث توسَّع تدريجياً حيّز الحرية في التعامل معها، مما فتح المجال أمام كل الحريات الشخصية الأخرى.

وفي نهاية المطاف أنا أرى أنَّ السلطة «الأشد وطأة» على المجتمع، التي يراها الأستاذ ميشال كيلو في الإسلام، رغم عدم وجود كنيسة، مردّها إلى موجة عودة الدين التي ذكرْتُها باقتضاب. وقد ساهم العديد من الحكام العرب فيها بنشاط واندفاع، لأنَّ ذلك أمَّن لهم حماية كبيرة من الغضب الشعبي أمام تردي أوضاع اقتصادية واجتماعية بشكل متواصل خلال العقود الأخيرة. وإذا كانت حركة عودة الدين مصطنعة في الأساس، فقد أخذت ديناميتها الخاصة التي تنتج إما الحركات التكفيرية العبثية، وإما تصبح ملجأ لكل المهمّشين والمقموعين والفقراء الذين لا يتمتعون بأي من فوائد ومزايا الحضارة الحديثة، وهي غربية المصدر، شئنا أم أبيْنا، في حين ترى الفئات الاجتماعية المحرومة محاسيب الحكام يعيشون في بحبوحة كبيرة لا يبررها ولا يشرعنها أي عمل مفيد للمجتمع، مما يخالف الأخلاق الاقتصادية الإسلامية نفسها.

وتجدر الإشارة هنا أيضاً إلى أنَّ هذا التقوقع على الهوية الدينية في المجتمعات العربية والتمسّك بمظاهر ممارسة الدين أصبحت أيضاً ردة فعل طبيـعية لمظاهر عودة الدين في الدول الغربية. وإن لم تأخذ في هذه الدول شكل العودة إلى ممارسات الطـقوس الدينية بحذافــيرها كــما هو الحال عندنا، فقد أخذت طابعاً جغراسياً يستفزنا كلّنا كعرب؛ إذْ أصبحت الثقافات الغـربية تخترع جذوراً يهودية ـ مسيحية لحضارتها، بعد أن كانــت قد اعتُمِدَت، منذ عصر النهضة في أوروبا، رواية الجــذور اليونانية ـ الرومانية القديمة كأساس لحضارتها. وباختراع هذه المقولة التخيُّلية الجديدة، تتنكر أوروبـا بل وتلغي كل القرون الطويلة، حــيث هُمِّشَت وقُمِعَت واضــطُهِدَت الديانة اليهودية على يد الكنيسة المسيحية، ومن ثم تمت محاولة إبادتها في القارة عينها تحت تأثير النظرة العنصرية والمادية والإلحادية للنازية. وبطبيعة الحال، أنه ليس هناك من قيَم مشتركة بين المسيحية واليهودية، وأنَّ هذه الأسطورة الجديدة التي أتى بها جو صراع الحضارات، ليست إلا ذريعة بشعة لوضع الشرق المسلِم في مواجهة مع الغرب المسيحي ـ اليهودي وتبرير مساندة الصهيونية وإعادة إخضاع المنطقة العربية ومجتمعات إسلامية أخرى إلى مشاريع هيمنة الإمبريالية الأميركية وملحقاتها الأوروبية.

وإذْ أشارك الأستاذ ميشال كيلو انزعاجه من وطأة الدين عبر كثافة المتكلّمين باسمه في المجتمعات العربية، فإنَّ تفسيري لهذه الظاهرة مغاير تماماً لتفسيره الذي ينتمي إلى الكتابات الأنتروبولوجية الدينية، المتأثّرة في كثير من الأحيان بالاستشراق الغربي، والتي تقول بخاصية مطلقة للديانة الإسلامية بالنسبة للديانات الأخرى، وخاصة بالنسبة إلى المسيحية. فترى تلك المدرسة بأنَّ الإسلام في جوهر رسالته لا يمكن أن يفرِّق بين الروحي والزمني، وهذا قول يردده العديد من المثقفين المسلمين الذين انخرطوا في تنشيط عودة الدين وهم كانوا في بعض الأحيان من التقدميين المناضلين للأحزاب السياسية العروبية، ماركسيةً كانت أم غير مركسية. وهذا أيضاً قول نجده بكثافة في كل أدبيات السلفــية الدينية، متشددة كانت أم معتدلة، وعلى خلاف ما كان الوضع عليه في حقبة النهضة العربية.

شخصياً، أرى أنَّ في أنتروبولوجيا الديانتيْن، المسيحية والإسلام، وفي مسارهما التاريخي أوجه تشابه ناتجة من جوهر التوحيد الديني، كما التمايز في المسار التاريخي في كل من المسيحية الأوروبية والإسلام العربي. فغياب الكنيسة وسطوتها في الإسلام سمة لا يمكن إنكارها. فبعدم وجود المؤسسة الدينية الواحدة التي تجمع بين كل المسلمين، كان من المنطقي أن يصبح الحاكم المدني (وإنْ كان لقبه أمير المؤمنين أو السلطان أو الخليفة) هو الذي يوجه ويسيطر على العلماء الموزعين في مناطق وبلدان ومجتمعات متفرّقة ومتناثرة بعد انهيار الخلافة العباسـية. وخلافاً لنظرة ميشال كيلو، فإنني أرى في تعددية المراجع الدينية في المذهب الشيعي نوعاً من استمرار حرية الاجتهاد والتأويل في النصوص المقدَّسة. ومما لا شك فيه في هذا المضمار أن الثورة الإسلامية في إيران والنظام الدستوري الديني المختلط الذي أسسته، قد أطلقت اتجاهات تصعيدية في ظاهرة عودة الديني في منطقة الشرق الأوسط، بحيث أصبح هذا النظام يتنافس مع النظام الملكي في المملكة العربية السعودية الذي اختار من المذهب الوهابي المتشدد السند الرئيسي لنظامه السياسي. وقد تعاظم هذا التنافس نتيجة عودة ظاهرة الدين التي كانت في الأساس مرتبطة بالسياسة الأميركية لمكافحة الشيوعية والاتحاد السوفياتي.

إنَّ وقوعنا في فخ عودة الديني يؤكّد أننا نمر كعرب بفترة انحطاط متواصلة وما سميْتُه «بدينامية الفشل» في مؤلَّفي «انفجار المشرق العربي» (دار الفارابي، عام 2006). هذا الانحطاط هو أيضاً انحطاط فكري. ومن بين الأسباب العديدة للانحطاط الفكري استيراد الإشكاليات الغربية بطريقة عمياء لتحليل أوضاعنا ومعاينتها واستنباط الحلول التي لا تناسب الأوضاع الميدانية في مسارها التاريخي. وهذا ما لم يفعله معظم رواد النهضة العربية، وخاصة العلماء منهم الذين تميّزوا بجرأة أدبية وأخلاقية كبيرة نسبة لما تشهده الساحة الفكرية ـ السياسية ـ الدينية اليوم من تدهور عملاق.

ولذا أنا العلماني أسعى الى النظر إلى الحــركات الإسلامية بشيء من الدقة وأفرِّق في ما بينها، فأرى أنَّ حركات المقاومة الإسلامية للاحتلالات الإسرائيلية أو للاحتلالات الأميركية هي حركات يجب أن تُدْعَم وتُصان وتُشَجَّع لأنَّها هي بريق الأمل في مستــقبل أفضل، خاصةً بعد الإنجازات التي حققها حزب الله في لبنان، وإنْ لم نكن من الناحية العقائدية من أتباع الإيمان بنــظام ولاية الفقيه. ففي النهاية، إنَّ الدافع الأساسي الذي أدى إلى استشهاد كل هؤلاء المقاومين اللبنانيين الشرفاء هو الدفاع عن كرامة الإنسان والوطن والمجتمع الذي ينتمون إليه. وهناك جدلية معقَّدة بين كرامة الإنسان ومجتمعه وبين الحرية الفردية لن أغوص فيها هنا، لكن الحرية الفردية الشكلية بدون كرامة مؤمَّنة، لا جدوى منها ويمكن أن تكون أيضاً سلعة مستوردة من الخارج لا قيمة فعلية لها، ما لم تنبع من حركة نهضوية ذاتية في جميع الميادين، ومنها خاصة القدرة على صدّ الغزوات والاحتلالات الأجنبية التي يتعرض اليها العرب منذ غزو نابليون بونابرت لمصر عام 1798 .

Print Friendly

عن admin

شاهد أيضاً

نشرة الأربعاء 16 تشرين الأول (10) 2019 العدد 5781

رئيس الجمهورية تابع التطورات المتعلقة بالحرائق في عدد من المناطق، وقمة لبنانية-ايرلندية غدا في قصر ...

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *