الرئيسية / News / Latest / العلمنة

العلمنة

 لبنـان والعلمانيـة

ميشال إده

السفير السبت 5 كانون الاول 2009

العَلمانية، بحسب التعريف الأصلي المعتمد في بلد المنشأ فرنسا، والذي يورده قاموس لاروس Larousse، هي «نظام أو منهج système يُقصي الكنائس عن ممارسة السلطة السياسية أو الإدارية، وعن تنظيم التعليم الرسمي بخاصة»
«Système qui exclut les Eglises de l’exercice du pouvoir politique ou administratif, et en particulier de l’organisation de l’enseignement public».
وعلى هذا، فالمبدأ الأساس المكثّف حقاً لمضمون العلمانية ـ والشائع كذلك ـ هو فصل الدين عن الدولة.
في لبنان، ثمّة أخذ واضح بهذا المبدأ العلماني. فالدستور اللبناني، سواء الذي وضع في العام 1926، أو الذي وضع مع الاستقلال في العام 1943، ثمّ المعدّل في العام 1990 على أساس «وثيقة الوفاق الوطني» في الطائف، هو الدستور الوحيد ـ بخلاف كل دساتير البلدان العربية الشقيقة الأخرى ـ الذي لا ينصّ على أنّ للدولة ديناً معيناً، والذي لم تُسْتَمَدّ قوانينه من دين معين أو شرائع دينية معينة.
الدولة في لبنان ليست، إذاً، دينية. بل هي بهذا المعنى، عَلْمانية. مثلما أنّها علمانية كذلك على مستوى التربية والتعليم الرسميين، إذْ إنّ دستورها لم يعطِ للسلطات أو المرجعيات الدينية الحقّ في أن تمارس هي، بهذه الصفة، تنظيم التعليم الرسمي في لبنان.
غير أنّنا، في أوجه أخرى من الحياة المدنية، لم ننجح إلى الآن في إقرار حتى «القانون الاختياري للزواج المدني»، والذي كان قد وافق عليه مجلس الوزراء بأكثرية الثلثين، على أساس مشروع تقدّم به الرئيس الراحل الياس الهراوي. لكنّ ردود الفعل الإسلامية، وكذلك من قبل الكنائس المسيحية، قد رفضت إقرار هذا المشروع وتطبيقه بشكل قاطع.
فإذا كان مجرّد قانون اختياري (أي غير إلزامي) للأحوال الشخصية أمراً متعذّر الحصول حتى الآن، فكيف لأمور أخرى من أوجه العلمانية أن تتحقّق في شروطنا الراهنة، لا سيما إذا كان لها طابع إلزامي؟
والسؤال الذي يفرض نفسه حكماً هنا: هل بالإمكان، بل هل من الجائز، أن يُصار اليوم في لبنان، إلى فرض العلمانية بكامل أمورها وأوجهها وإنْ بموجب قانون، إذا لم تكن مكوّنات المجتمع اللبناني متوافقة على ذلك؟
أفلا تلزم الحكمة هنا بالتبصّر الملّي لخصوصيتنا المجتمعية والكيانية بدلا من جلدها واستسهال إصدار الحكم بإعدامها؟
إنّ وقائعنا اللبنانية تقدّم على صعيد التجربة الديموقراطية صورة مختلفة تظهر بناء نظامنا السياسي البرلماني الديموقراطي على أساس مختلف عمّا قامت عليه الديموقراطية في فرنسا مثلاً تحقيقاً لمبدأ العلمنة الكاملة.
وقائعنا تُظهر أنّ عدم التجانس دينياً في لبنان كمسيحيين ومسلمين لم يحصل لاحقاً بعد تكوّنه بيئة جغرافية، وبلداً، ولا بعد قيام الدولة اللبنانية الحديثة. بل هو في أساس تكوين لبنان مجتمعاً وبلداً قبل أن يتكرّس دولة. وتجربتنا في لبنان هي ديموقراطية لأنّها تقوم بالضبط على مبدأ التمثيل السياسي لجميع عائلات لبنان الروحية، بشكل متوازن. وهو الأمر الذي يعني تحديداً الاعتراف السياسي، ودستورياً، في الحق بالاختلاف، واحترام الآخر وقبوله باختلافه. هذا النظام من التمثيل السياسي ديموقراطي فعلاً لأنّه يتوافق وتركيبة لبنان المجتمعية، منذ أن راح يتكوّن، على مدى قرون، وبصورة تلقائية غير مفتعلة ولا مقصودة، على أساس مجموعات غير متجانسة دينياً، ولا حتى مذهبياً ضمن الدين الواحد. ولقد تمكّنت هذه العناصر المختلفة من أن تكتشف معاً، وعبر اختبارات التجربة، مضمون ونعمة الغنى القائم في هذا التنوّع والتعدّد. فارتضت معاً، وراحت تنسج معاً، صيغة مجتمعية هي صيغة العيش المشترك في ما بينها على أساس التنوّع وليس الأحادية.
أعلم أنّه ما من أحد سوف يأخذ هذا الكلام على محمل رفض المسار الآيل إلى إزالة أي شكل من أشكال التفرقة بين المواطنين. ولا سيّما على أساس التعصّب أو الفئوية، أو التقوقع. إنّني من موقعي العَلماني بالذات، أدعو إلى أن يُحْسِنَ الجميع في لبنان قراءة الوقائع العنيدة. فلا يُقْدِمَنّ الواحد منا على إحلال رغباته واقتناعاته الذاتية محل هذه الوقائع اللبنانية التي تثبت بكل بساطة أنّ الحاجة إلى تمثيل العائلات الروحية ضرورة حيويّة ماسّة بالنسبة إلى اللبنانيين، ولا سيما في الظروف الراهنة. وإنّ إزالة هذا التمثيل بصورة إرادوية سترتدّ حكماً بالعواقب المعاكسة للمتوخى من ذلك، مثلما أنّه ليس من الجائز، من جهة أخرى، أن يستسلم الواحد منا أمام الوقائع بمعنى التخلّي عن ضرورة السعي إلى تغيير السلبي منها في مضمار التطبيق والممارسة. إنّ مقاربة الأخطاء في الممارسة في ما يتعلّق بمسألة «الطائفية السياسية» في لبنان، تفترض من جميع الحريصين على بقاء لبنان وعلى تطوّره الديموقراطي أن يتعاملوا مع هذه المسألة بعيون ترى وليس بعيون تعوّدت أن تعتقد لا أن ترى.
الأخطاء التي تنسب إلى نظامنا المبني على التمثيل السياسي للعائلات الروحية إنّما مردّها الحقيقي ومرتعها الخصب المحسوبية والمحاصصة والفساد والتي أوجدتها وعزّزتها الممارسة المشوَّهة والمشوِّهة لنظامنا التمثيلي عندما ضربت، وما تزال تضرب، عرض الحائط بدولة الحقّ L’Etat de droit التي يفترضها، ويشترطها، ويلزم جوهرياً بها النظام الديموقراطي البرلماني.
والجميع يعلم أنّ المحسوبية والزبائنية والمحاصصة، والفساد بشتى أشكاله، أمراض لا تزال تعاني منها ومن تفشّيها، أعرق الديموقراطيات، وفي البلدان المتجانسة دينياً بالذات كفرنسا والولايات المتّحدة واليابان وسائر دول أوروبا وأميركا الجنوبية وغيرها.
عندما أدعو إلى قراءة خصوصية تجربتنا الديموقراطية اللبنانية، فهذا لا يعني إلاّ أن نقرأ نقدياً بصورة متواصلة كلّ ما يلحق بروحية هذه التجربة الفريدة من شوائب اعتورتها وما تزال، ومن أخطاء ألحقتها بها الممارسات المشوّهة وما تزال. هنا تبرز بخاصة أهمية دولة الحقّ التي تلزم بالمساءلة والمحاسبة، وتصحّح بآلياتها الدستورية والقانونية بصورة دائمة هذه الممارسات والأخطاء والمخالفات والارتكابات، والفساد بمظاهره كافة.
لبنان التنوّع، بصيغته المجتمعية القائمة وبنظامه بالتمثيل السياسي للعائلات الروحية، إنّـما يجسّد في هذا الشرق حوار الحياة بين المسيحية والإسلام، خدمة لتلاقي هاتين الديانتين وائتلافهما في العالم كلّه. فبلدان العالم، غرباً وشرقاً، بدأت تشهد في داخلها توتّرات وصدامات مقلقة تؤشّر على انعدام التعايش في ما بين مواطنيها المعتنقين ديناً مختلفاً عن الدين السائد في هذه البلدان أو الذي كان سائداً من قبل. ففي بعض البلدان ذات التراث المسيحي والتي أصبحت علمانية، يعاني المسلمون فيها من تداعيات التهميش، ومن مظاهر شتى من عدم القبول بالآخر، ومن عدم الاعتراف باختلافه. بالأمس القريب جداً، بدأت تعلو الضجّة ومظاهر الاحتجاجات على رفض بناء المزيد من المآذن في سويسرا مثلاً. ولا تزال فرنسا تعيش القلاقل والاضطرابات المختلفة التي تعكس عدم قدرة المجتمع الفرنسي حتى الآن على التكيّف والعيش بصورة طبيعية مع أكثر من ستة ملايين مواطن فرنسي مسلم مهمّشين بصورة شبه كاملة في شتّى القطاعات السياسية والإدارية والمجتمعية. كما أنّ المسيحيين المواطنين في بلدان إسلامية عديدة كأندونيسيا والباكستان وغيرهما، وفي بعض البلدان الإسلامية العربية كذلك، يتعرّضون إلى التهميش، والنبذ السياسي والمجتمعي بكل صوره.
ثمّة مشكلة حقيقية هي فعلاً مشكلة الألفية الثالثة في كلّ بلدان العالم والمتمثّلة بعدم التوصّل إلى صيغة مجتمعية تؤمّن العيش المشترك الكريم بين المسلمين وغير المسلمين.
وعلى هذا، فلبنان يتقدّم بعيشه المشترك العريق في هذا السياق، قدوة ومثالاً يُحتذى. إنّ هذا اللبنان الذي كنّا نكتفي بالاغتباط به «همزة وصل بين الشرق والغرب»، بات علينا جميعاً، بعائلاتنا الروحية كافة، أن نوفّر له موجبات بروزه اليوم بكونه «ضرورة للشرق والغرب» معاً، على حدّ قول قداسة الحبر الأعظم الراحل يوحنا بولس الثاني في زيارته الرسولية التاريخية للبنان.
لكنّ ثمّة عنواناً آخر أساسياً جداً، وصنواً للبنان بصيغته هذه، ألا وهو الديموقراطية. وهذا بخاصة بإزاء معاناة التجارب العربية من غياب أو تعثّر الديموقراطية والحرية، بما هما الركن الأساس في بنية المجتمعات وضمان تطوّرها. غياب الديموقراطية هو ما شكّل العامل الجوهري الأوّل الذي عطّل وشلّ ما تختزنه شعوبنا من طاقات، في مجرى صراعنا مع الكيان الصهيوني، ومن أجل التقدّم والتطوّر كذلك.
نظامنا بالتمثيل السياسي للعائلات الروحية، والذي يحترم خصوصيات جميع الأقليات ويعترف بحقّها في الاختــلاف، إنّما هو الذي أوجد الديموقراطية التي ينعم بـها لبنان. وبفضل هذه الصيغة تحديداً، يبــرز لبـنان البلد العربي الوحيد الذي لم يقع ضحية الانقلابات العسكرية، ولا أنظمة الديكتاتورية السياسية. وهو البلد العربي الوحيد الذي يتمّ فيه تداول السلطة بشكل دوري وطبيعي : كلّ ست سنوات بالنسبة لرئاسة الجمهورية، وكلّ أربع سنوات بالنسبة للمـجلس النـيابي، ولا تقوم فيه الحكومات إلاّ بعد نيلها ثقة المجلس النيابي. واللجان النيابية تُنْتـَخَب وتجتمع دورياً، والموازنة يُصَادَق عليها سنوياً، الخ.
ولبنان هو البلد العربي الوحيد الذي نهض شعبه تلقائياً إلى مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، واستكمال تحرير أرضه إلى جانب الجيش. وهذا منذ اجتياح آذار 1978، ومن ثمّ اجتياح 1982، وصولاً إلى تحرير الجنوب نهائياً في العام 2000 دون قيد أو شرط، ثمّ إفشال العدوان الإسرائيلي في العام 2006.
ذلك أنّ تعلّق الشعب اللبناني بالحرية والديموقراطية، في ظلّ تعدّدية الأحزاب والتيارات السياسية المتنافسة المتصارعة سياسياً، كان في أساس صنع هذه الحيوية السياسية والنضج السياسي والكفاحيّ لشعبنا. لأنّ الديموقراطية التي نتمسّك بها إنّما يتربّى المواطن في ظلّها على الأمل بالتغيير الديموقراطي، وعلى أنّ حصوله أمر ممكن. أمّا في الأنظمة القامعة للديموقراطية، فهو لا يتربى كمواطن إلاّ على الخوف. أي على اليأس والقعود والتسليم.
كفانا هذا النوع من الجلد الذاتي لحياتنا المجتمعية. ولديموقراطيتنا التي لا تتصحّح عوراتها إلاّ بالمزيد من الديموقراطية المتأسّسة حقاً على الحقّ في الاختلاف واحترام الآخر وقبوله باختلافه.
أَوَليس التمثيل السياسي للعائلات الروحية تعبيراً فعلياً عن هذا الحقّ؟ وتعبيراً فعلياً عن أمر آخر يوازيه أهمية، ألا وهو تأمين الضوابط التي تلجم الاستقواء؟
لقد دعوت إلى التحلّي بالحكمة في هذه الكلمة. إنّـما أرمي من ذلك إلى لفت الانتباه إلى عدم استصغار الاختبار والتجربة اللبنانيين كمرجعية يصعب على كلّ من يباشرها بالأفكار المسبقة أن يتبيّن ثمارها اليانعة.
فيا سياسيي لبنان ! قليلاً من الحكمة.

[كلمة في افتتاح مؤتمر العلمانية في مساءلة متجددة في جامعة الكسليك

([) وزير سابق

_________________________________________

Print Friendly

عن admin

شاهد أيضاً

نشرة الأربعاء 16 تشرين الأول (10) 2019 العدد 5781

رئيس الجمهورية تابع التطورات المتعلقة بالحرائق في عدد من المناطق، وقمة لبنانية-ايرلندية غدا في قصر ...

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *